
بقلم: نادين محمد حلمى
من نحن؟ من نحن لنتحكم فى قلوبنا؛ فنرغمها على حبِ أحدهم، وكره آخر؟ من نحن؛ لنرغم الطرف الآخر على محبتنا، والتوق إلينا؟!
من نحن؛ لنشكل الحب بناءً على رغبتنا، وكيفما نشاء؟ هل القلب روبوت إلكترونى مثلًا أو نموذج لإنسانٍ آلى؛ لنجعل له الوجهة، والصدد؟!
لقد سارع الكثير من الفلاسفة على مر العصور فى طرح نظريات عدة، وتفسيرها من أجل الوصول إلى مبررٍ يودي بنا إلى الوقوع فى حبِ أحدهم، وعشقه إلى أقصى حد، لكن مع كثرة تلك النظريات التى صرعونا بها؛ إلا أننا لم نصل إلى الآن إلى حدٍ فاصل لتلك النظريات، ولم نتمكن من إيجاد مُبرر واضح فى هذا الموضوع بالتحديد، بل تعددت النظريات، والأقاويل فى صلب هذا الموضوع ومازالت تتعدد أسباب الحب.
لا أود أن تكون قصتي عبارة عن مقالٍ فلسفي بحت أو بحثٍ مثلًا من أجل ذلك سأكف عن المقدمات، وأبدأ معكم فى قصةٍ جديدة من قصصي المسلية من دون أدنى شك، أتمنى أن ترق لكم.
أعرفكم بنفسى مرةً أخرى وإن كنت أعلم أني لست شخصًا مغمورًا لديكم ليجهلنى البعض منكم!!
دكتورة/ صافي أحمد، جراحة قلب مشهورة أعمل بإحدى مستشفيات القاهرة، لكن الطب لم يمنعنى من مزاولة شغفى وحبي الزائد للكتابة؛ فلي ما يزيد عن خمسين كتاب مؤلف بعضهم يتحدث عن الحب، والبعض الآخر عن التضحية فى الحب، والمزيج من الروايات، والقصص القصيرة؛ فأنا قصاصٌ مُتميز، من العيب أن يتحدث المرء عن نفسه؛ من أجل ذلك ومن دون المزيد من المُقدمات؛ سأدخل فى صلب القصة مباشرةً، لكن قصة اليوم مختلفة عن القصص السابقة؛ لأنها قصتي بالفعل.
– الباب يدق؛ افتحي يا سمر؛ لعلها صافي أختك قد جاءت من المستشفى، لكن ماالذى أتى بها مبكرًا إلى هذا الحد يا تُرى؟!
أجابت سمر: “على الرحب، والسعة يا أمى؛ سأفتح لها على الفور.”
تركت سمر طعام الغذاء الذي كانت تُعده بالمطبخ؛ لتفتح لصافي على الفور.
تدخل الدكتورة صافي إلى البيت؛ فتختبئ سمر وراء الباب ممسكة بملعقة كبيرة من ملاعق الطهى؛ قائلة : “أهلاً بك يا دكتورة، لما جئتين مبكرة هذا اليوم؛ فى الحقيقة هذا شىء جيد؛ فإنى أعد لك طعامًا لذيذًا اليوم، وسوف تحبينه.
معكرونة! ابتسمت صافي، وقالت: ” لاشىء يا سمر، فقط المستشفى تمتلئ بالكثير من حالات كورونا اليوم، وتعلمين أني مرهفة الحس؛ فأرهقني ذلك كثيرًا، وانفطر قلبى حزنًا، وكمدًا؛ فاستأذنت من الدكتور يحيى، وغادرت المستشفى على الفور؛ وأخبرته أنى سآتى مبكرةً غدًا.
– ضحكت سمر مُداعبة صافي، وقالت: الدكتور يحيى يا أمى.
تضحك الأم من كلام سمر، وتقول: “كفي عن أختك يا سمر؛ أختك أتت مرهقة من عملها، وفى حاجة إلى الراحة” .
استأذنت صافي من والدتها، وغادرت الردهة؛ مصطحبة معها إرهاقها، وشتات أفكارها، وجملة أختها تلك عن الدكتور يحيى إلى غرفتها بالطابق العلوى.
تنادي الأم على سمر، وتأمرها بالجلوس، وتلومها قائلة: ” ما بك يا سمر؛ لما تثقلين على أختك فى هذا الموضوع إلى هذا الحد، أراقبك منذ فترة، لكني لم أعاتبك من قبل؛ تعلمين جيدًا أن أختك تحب يحيى كثيرًا، وهو يحبها أيضًا، وعرض عليها الزواج أكثر من مرة؛ ومع ذلك ترفض الزواج منه، مخفية جميع مشاعرها تجاهه من أجل سبب أنا وأنت نعلمه جيدًا؛ فاحترم يحيى ذلك جيدًا، وقدره.”
تلعثمت سمر، وشعرت بالخجل من والدتها بعض الشىء، وقالت: ” حقًا أنا لم أقصد يا أمى، فقط أود أن أرى أختى سعيدة، ومتزوجة من الإنسان الذى تُحبه ليس أكثر.”
تمتمت الأم، قائلة: ” أعلم ذلك يا سمر، لكن يحيى كان متزوجًا من صديقة صافي المقربة، لكنها ماتت وهى تلد له ابنته الأولى: (سها)، وقد أصبحت سها يافعة الآن تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، معتنية بها عمتها منذ الصغر؛ فكيف لها أن تتزوج من زوج صديقتها المقربة التى توفيت، وتأخذ مكانها؛ تلك هى نظرة صافي، وإن كنت أختلف معها أنا وأنت، وأنا لا أود أن أثقل عليها حتى وإن كنت أرى أن يحيى مناسبٌ لها.
غمغمت سمر، وقالت: “لكن أختى تبلغ من العمر الأربعون يا أمى؛ كيف لها أن تتزوج بعد هذا السن، وتنجب أطفالاً؟!
حقًا أنا أحبها، وأشعر بالحزن من أجلها، لكنى لم أتفوه بذلك أمامها قط.
لقد أفنت عمرها فى العلم من مزاولة مهنة الطب إلى مزاولة مهنة الكتابة، وأرهقت نفسها كثيرًا على مدار السنوات الماضية، وكانت ترفض الكثير من الخطاب الذين يترددون على بيتنا راغبين فى الزواج منها، لكنها كانت تحبس مشاعرها ورغبتها فى الزواج من أجل أن تكمل دراستها، وتعمل.
هذا حرامٌ يا أمى، اقنعيها أرجوكِ، أخبريها أن العلم ليس كل شىء والله؛ ألا تودى الإطمئنان على ابنتك الكبرى يا أمى؟!
ترقرقت الدموع فى عين الأم؛ فخرجت دموعٌ حبيسة من عينيها كانت ترغمهم على البقاء طوال السنوات الماضية، واحتضنت سمر؛ رقت سمر لحال والدتها، وأختها؛ فقررت عمل خطة من أجل جلب الفرح إلى بيتهم هذا الذى لا تحدث به الأفراح!!”
تسللت سمر خفيةً بالأمس إلى حجرة أختها، ومن ثم تفحصت هاتفها الخلوي، وأخذت منه رقم يحيى.
بعد ثلاثة أيام. تستيقظ صافي النشيطة من نومها، مرتبة لغرفتها، معدة نفسها؛ للذهاب إلى المستشفى.
تهبط صافي إلى الطابق السفلي؛ لتناول وجبة الإفطار، ومن ثم تقبيل جبهة والدتها، ويدسها كما اعتادت قبل مغادرتها للبيت؛ لتجد الأم، وسمر فى حالةٍ يُرثى لها، منهمرين فى البكاء، مُبتلة وجوههم من غزارة ما بكوا.
شهقت صافي، وامتقع وجهها من المنظر وقالت: ” ماذا بك يا أمى، ماذا بك يا سمر؟! أخبروني، هل جدتي أصابها أي مكروه؟! ” أخبرينى يا أمى.
سارعت صافي فى الذهاب إلى حجرة الجدة؛ فتصرخ بها سمر قائلة : ” ابتعدي يا صافي؛ إن جدتك أصيبت بفيروس كورونا، وكما تعلمين هى كبيرة فى السن، وبالتالي لن يتحمل جسدها الكهل، والضعيف هذا الفيروس!
شدت صافى إحدى كراسي المنضدة، وجلست عليه؛ واضعة يدها على جبهتها، مثقلة بالهموم، والتعب، وقررت عدم الذهاب إلى المستشفى.
وبعد قليل دق باب البيت؛ ففتحت سمر؛ لتجد يحيى على الباب؛ ممتقعًا وجهه هو الآخر، قائلاَ: ” أين الجدة، كيف حالها؟!”
ردت صافى عليه :”من أخبرك؟!”
فأجاب: أخبرتنى سمر على الفور، هل ضايقك هذا الشىء ؟!
تلعثمت صافي، قائلة: ” كلا، فقط أعلم أنك منشغل، ويجب أن تكون فى المستشفى الآن،” غمغم يحيى قائلاً: “وجدتك هى جدتي أيضًا، أم أنك لا تودي أن يشارك أحدهم محبتها لك؟!”
ومع مرور الوقت كان يحيى يتردد على بيت الدكتورة صافي؛ مظهرًا الاهتمام بالجدة، متناولًا معهم الطعام تارة، مطلقًا بعض الدعابات تارةً أخرى …
وفى صباح يوم من الأيام كادت صافي أن تقع من الطابق العلوى وهى تهبط إلى أسرتها؛ لتناول وجبة الإفطار معهم، وقد كانت الأم، وسمر جالستان فى حديقة البيت يُعدان الإفطار، وقد تعافت الجدة بعض الشىء؛ لدرجة أنها كانت تجلس معهم أيضًا على الإفطار بكرسها المتحرك.
الجدة التى لم تكن مصابة بأى فيروس فى الأساس؛ لأنها لم تخرج من البيت إطلاقًا؛ حفاظًا على سلامتها، لكن صافىي لم تكتشف ذلك بعد، لقد كانت خدعة من سمر، والأم، والجدة، ويحيى للتقريب بينه، وبين صافي ليس أكثر، لكن مشاعر يحيى تجاه صافي كانت حقيقية وبكل تأكيد.
كادت صافي أن تقع من الطابق العلوى؛ فرمقها يحيى بنظره بغتةً، وقد كان ذاهبًا إلى الحديقة؛ فأمسك بيديها قبل أن تقع من على درجات السلم؛ فأمسكت به جيدًا، وظلت تحدق النظر فى عينيه، وكأنها تره لأول مرة؛ فهمس بأذنها قائلاً: “هل لكِ أن ترحمى هذا القلب المسكين، وترقي له؛ فتتزوجيه؛ تالله إنى أحبك حقًا بحجم السماء!”
نظرت صافي إلى عينيه بكل حنان، وطأطأت رأسها من دون أن تشعر، قائلةً :”موافقة.”
تقف الأسرة أمامهم مصفقين، ومهللين، وبعد يومين ترتدي صافى الفستان الأبيض وعلى إحدى الشواطئ يرقصان هما الاثنين على تلك الأغنية : “ولا ليك عليا حلفان، أنا روحي فيك من زمان، وبحبك أنا، أنا بحبك أنا…”
بعد عامٍ.
– بابا، بابا.
– الأم: ايه يا صافي، كدا صحيتي بابا.
– – يحيى من نومه: يا حبيبة بابا.
تضحك صافى الكبرى مُداعبةً يحيى، قائلة: “ليست صافي الصغرى التى أيقظتك من نومك يا يحيى بل الكبرى يا قرة عين صافي من أخبرتها بفعل ذلك، هيا قم، يكفيك نوم؛ لا أود أن أتناول وجبة الإفطار من دونك.”
قبلها يحيى من جبهتها، وقبل ابنته صافي أيضًا، وقال: ” فليبارك ليَّ الله فيكما، أحبك يا صافي، وسأظل أحبك إلى الأبد.”