ابداعاتقصص

وللجثث رأي آخر

رحمة خميس

يجلس يزن في شرفة العمل لعل الهواء يتخلل لرئتيه قليلًا من الشعور الخانق الذي يتسلله، فبعدما تم توكيله بقضية جديدة وقام بحلها، ظلت كالعلكة عالقة بجوفه.

وجد يزن يد تربت على كتفه، وما إن نظر وجد دكتور سالم الشيخ، الذي استقبله وعلى محياه ابتسامة لطيفة قائلًا: كيف حالك يزن؟ وكيف حال القضية الجديدة؟ عاد يزن لشروده مرة أخرى مع تنهيدة عميقة قائلًا: أعلم أنها أول قضية أعمل بها، لكن لم أكن أعلم أنها ستؤثر بي لهذه الدرجة.

سالم: ما الذي حدث؟

يزن: ظننته حادث سيارة عادي، لكنه كان أكبر من ذاك، أخ دس السم لأخيه بالعصير؛ لقتله والاستيلاء على بوليصة التأمين التي وضعها على حياته، فقام بدفن الجثة سريعًا؛ حتى لا تتعرف الشرطة على سبب الوفاة، وذهب ليدفن الجثة بمحافظة العائلة، لكن المحزن بالأمر أن الجثة احترقت بالسيارة في حريق مفتعل.

انفجع سالم مما يسمعه قائلًا بتقطع: احترقت… الجثة؟

يزن: نعم، عندما حاولنا استجواب الأخ المتهم أنكر ذلك، لكنه كان المشتبه به الرئيسي على أية حال.

سالم: لماذا شككتم به بهذه السرعة؟ هل سحب أموال بوليصة التأمين؟ أومأ يزن بـنعم، بعد يومين من وفاة أخيه، وكانت حُجته أنه كان يحتاج الأموال لدفن الجثة وللإجراءات الخاصة بالسفر ونقل الجثة وإقامة العزاء.

سالم: ما الذي حدث بعد ذلك؟

يزن: مات المتهم بنهاية مأساوية تاركًا الحيرة ورائه، ترك رسالة كتب بها سبب قتله لأخيه.

مد يزن يده إلى الطاولة التي أمامه وأعطى دكتور سالم بعض الأوراق وقال: تفضل.

أمسك سالم الورق بلهفة وبدأ بالقراءة: “إن الجزاء كان من جنس العمل، وهذه النهاية التي يستحقها شخصًا مثلي، عندما يأتي الطوفان كُلُّ سيدفع ثمن ما ارتكب وبنفس الطريقة، قتلت أخي، وجائت روحه المقهورة لتنتقم مني، روح كانت نقية لأبعد حد لم أتوقعه، فلذة كبدي الذي ربيته جاء لينتقم بنفس الطريقة، السُم الذي قتلته به، لم أتوقع أن يعميني الطمع واتخلص منه بتلك السهولة، سأقوم بتلبيه طلبه الأخير وأن أشرب السم بكل ثقة كما فعلتها معه، لعله يسامحني على ما فعلت، سأذهب له بنفس الطريقة، لعل ثأره مني يجعل روحه المقهورة تتركني بعد اللقاء”.

قطع شروده وتذكره لقصة مشابهة لذلك صوت يزن الذي قال: لم أتوقع أن تنتقم منه روح أخيه، لقد وجدنا بالزنزانة سُم السيانيد بعبوة عصير شربها المتهم واكتشفنا بعد ذلك أنه فعل ذلك لأخيه، هل الأرواح تعود لتنتقم من قاتلها؟

تنهد سالم ثم قال: سأقص عليه ما حدث لمحمود وستجد الإجابة.

يزن: من محمود؟ وماذا حدث معه؟

تنهد سالم وقال: إنها قصة طويلة، ولا يوجد أي شبهة جنائية وراء قتله وقتل عائلته، جاء لي في عام 2017 جثة لشخص يدعي محمود، كان شاب بالأربعينيات من عمره، وعلى رأسه جرح إثر ضربة قوية لكن غير مميتة، عندما قمت بتشريحه، لم يكن سبب الوفاة جرح الرأس، لكنه جرح القلب، عامل المشرحة كان يخبرني أن جثة محمود أحيانا تضحك بشدة في الليل عندما يسمع صوتها في ثلاجة الموتى، وفي بعض الأحيان رأيته وعلى وجهه ابتسامة مخيفة لم أفهمها، عندما تم التشريح، كان قد مات بسبب سكتة قلبية، وعندما سألت عن حالته الاجتماعية وجدت ما صدمني.

يزن باهتمام شديد: ماذا؟

سالم: محمود لديه أخوان وأخت واحدة مطلقة يعيشون جميعًا بمنزل واحدة بعدة طوابق، أخته مطلقة بالدور الأول، وأخيه الأوسط بالدور الثاني، وأخيه الأصغر بالدور الثالث، وهو بالدور الرابع، لم يتزوج محمود، كان حلمه أن يعيش حياة طبيعية مع أسرة بسيطة، لكن إخوته سلبوا منه أبسط حقوقه، مشاجراتهم ومشاحنتهم كانت كثيرة، بعد عودته من عمله كل يوم كان يحاول فض المشاحنات بين زوجات إخوته وبين أخته، كانا يسبّوه كثيرًا، وإخوته يقوموا بإهانته إذا حاول التدخل، لم يجد من يحنو عليه سوى صاحب والده الشيخ محمد، وفي آخر مشاحنة كانت بين زوجات إخوته واحدة منهم قامت بشتمه وأمسكت عصا حديدية وضربته بها على رأسه، صعد لشقته ولم ينزل منها إلا وهو جثة هامدة، بعد عدة أيام اكتشفوا اختفائه ولم يسأل عنه سوى الشيخ محمد، حتى صعد له ووجده ميتًا بشقته.

انصدم يزن مما يسمعه وقال باهتمام: وماذا فعل إخوته بعد وفاته؟

سالم: الاستيلاء على شقته، وعلى أمواله، وعلى ميراثه من والده.

ثم أردف: ليس هذا الأمر الغريب، الأغرب في قضيته أن عائلته أجمع ماتوا بأبشع الطرق بالطريقة التي استولوا بها على ممتلكاته.

يزن: كيف ذلك؟

سالم: بعدما سرد لي العم محمد قصة محمود، كان شخص طيب للغاية، كان يحاول أن يلم شمل إخوته، لكنه لم يجد منهم إلا الجفاء وسوء المعاملة، أخيه الأكبر وزوجته أخذوا منه عربته بدون مقابل وأجبروه على بيعها لهم بحجة أنه لا يستخدمها، وأخيه الأوسط وزوجته كان يتلقى منهم سيل من الإهانات والنظرات الحاقدة خاصة من أخيه، وأخته سرقت منه عقد والدته الذي كان يحبه وكان ميراثه منها، وقالت أنها لم تسرقه، ولكن بكل حقد وبجاحة كانت تلبس العقد أمامه.

وزوجات إخوته عندما تدخل في آخر مشادات بينهما ضربوه بالأحذية على رأسه وواحدة منهم أخذت عصا حديدية وضربته بها وسط نظرات أخيه الحاقدة عليه.

يزن: لا أصدق أن هناك أشخاص بهذا الجحود، ماذا حدث لهم؟

سالم: ظلت جثة محمود بالمشرحة يومين، لم يستلمها إخوته؛ بسبب انشغالهم بالاستيلاء على ما تركه، لكن الله يمهل ولا يهمل، بدأت سلسلة الانتقام بعد ذلك، بعد مرور يومين من وجود جثة محمود بالمشرحة حدث حريق بمنزل العائلة بدأ بشقة محمود ثم باقي المنازل، لم يُصاب أي شخص، لكنهم تفرقوا في أماكن مختلفة، منهم من قام بتأجير منزل، ومنهم من سكن عند الأقارب، حتى بدأت سلسلة الانتقام.

يزن: شعرت بالحماس المفاجئ، لا أطيق الانتظار.

سالم: يبدو أنك تحب قصص الانتقام.

يزن: النهايات السعيدة هي الأروع دائمًا.

سالم: حسنا، استمع زوجة أخ محمود الأكبر وابنتها كانا يريان محمود في أحلامهما يريد الانتقام منهما، حتى تركت المنزل لزوجها وذهبت لمنزل والدها، وفي طريقها للمنزل كانت تريد استقلال أتوبيس لكن القدر انتقم، وهي تحاول الصعود وهي تحمل ابنتها وحقيبة ملابسها، كانت تحاول أن تحمل الحقيبة لكن الحقيبة انزلقت من يدها لتحت الأتوبيس وعلقت من الناحية الأخرى بعنقها وظلت مسحوبة طوال الطريق مع ابنتها وكان الركاب يقولون أنها كانت تقول أن يتركها محمود بسلام، حتى ماتت.

شعر يزن بالدهشة مما سمع وقال بحماس: لا تعليق على ذلك سوى بهجتي لسماع ذلك.

ضحك سالم وقال: وستشعر بالبهجة أكثر عندما تعلم أن زوجها مات وهو بمنزله وعلى وجهه آثار رعب شديدة وعيناه بجانبه.

يزن بفجع: ماذا؟ تم اقتلاع عيناه؟

سالم: مات بنفس الطريقة التي كان ينظر بها لأخيه، بنظرات الحقد الدفين له.

يزن: وماذا حدث لأخيه الآخر؟

سالم: اتركنا منه الآن، ما حدث بالمشرحة بعد ذلك هو الأغرب على الاطلاق، عندما جائت إلينا جثة زوجة أخيه وابنتها وزوجهاكان حظهم السيء بأنهم بجانب محمود في الثلاجة، كلما كنت أذهب بهم إلى ثلاجة المشرحة، وجوههم تصبح شاحبة كثيرًا، وصوت ضحكات محمود تزداد، وكلما ابتعد تعود الأمور لطبيعتها.

يزن: ألم تكن تعلم بأنهم أقاربه؟

سالم: عامل المشرحة قال لي ذلك حتى فهمت السبب.

يزن: أريد أن أعرف ماذا حدث لبقية إخوته؟

سالم: حدث المتوقع، زوجة أخيه الآخر جائت المشرحة وهي بحالة ضرب على جسدها غير طبيعية، عندما حاولت التحقق من الأمر، لم يضربها أحد بذلك الشكل أبدًا، كانت تنام بغرفتها مع طفلتها واستيقظت بفزع وقالت إن محمود يريد الانتقام منها، وبعدما هدأت وعادت للنوم، وجدوها بالصباح هي غارقة بدماءها مع ابنتها.

يزن: وزوجها؟ مات بنفس الطريقة؟

سالم: مات بعربة محمود التي سرقها منه، واحترقت العربة وهو بطريقه للمشرحة بعدما علم بموت زوجته وابنته.

يزن: وأخت محمود؟ أين ذهبت؟ وماذا حدث لها؟

سالم: كانت الأغرب على الإطلاق، جائت لي المشرحة وهي ميتة بحالة شنق لكن الأغرب علامات العقد التي كانت على عنقها، ماتت نتيجة الخنق الشديد، لكن لا يوجد عقد يُميت بهذه الطريقة، لكنه كان مطبوع على عنقها بشكل واضح.

يزن: العقد الذي سرقته من محمود؟

سالم: نعم، بعدما انتهيت من التشريح، وتم تأييد القضية ضد مجهول، استلم الجثث العم محمد في مشهد أغرب من الخيال، كانت جثة محمود الأولى التي تخرج ووراءها جثث البقية، كنت استمع لصوت ضحك محمود وصوت صرخات إخوته، كان المشهد مليء بالحزن والطاقة السلبية الشديدة، وانتهت المشرحة من سماع الضحك والصراخ المفاجئ من محمود وعائلته، انتهت قصتهم نهاية مأساوية، لا أعلم من انتقم، لكن روح محمود لدى خالقها لا تقوى على الانتقام، الله هو المنتقم وليس الأرواح.

يزن: انتهت القصة نهاية مأساوية غريبة، لكنه انتقم مما حدث له.

سالم: محمود لم ينتقم، الأرواح لدى خالقها في عالم البرزخ بحياة أخرى ومهام أخرى، لا تقوى على الانتقام، إنه عقاب الله، لا تصدق أن الأرواح تعود للانتقام، إنها إرادته فقط.

مثلما قال قاتل أخيه “عندما يأتي الطوفان كُلُّ سيدفع ثمن ما ارتكب وبنفس الطريقة”.

النهاية..

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
الصفحة السابقة 1 2
error: Content is protected !!