ابداعات

مقال الاربعاء

✍️ناجي شاهين

أعمل في تلك الجريدة كاتبًا منذ الأبد مقابل أجر قابل لتحمل معيشة شخص مثلي، ليس عليَّ سوى كتابة عمود أسبوعيًا من ذلك الهراء سواء كانت قصة قصيرة أو خاطرة أو مقال .. لا يهم، ما يهم حقًا هو كيف دفعت أولئك الحمقى كي يظنوا أنني كاتب موهوب، أنا حقًا محظوظ فكما يقول المثل المصري “رزق الهبل على المجانين”.

جهزت منطقتي الآمنة وأعددت عدتي وشحذت قلمي وحرقت سجائري وشربت قهوتي، بل حتى أنني لم أشربها فقد “احتسيتها” أملًا في أن يصيبني غيث أحد مثقفي القهوة، الذين يظنون أنهم أصبحوا مثقفين فقط لأنهم يعتمرون قبعة توفيق الحكيم و”يحتسون” القهوة، ليس فقط يشربونها بل “يحتسونها” وهناك فرق كبير بين الاثنين لو تعلمون، الأغبياء يظنون أن أحدًا سيهتم بآراءهم المعطوبة فقط لأنهم يعتمرون قبعة، يعتمرونها ليس فقط يلبسونها، ولكن على كل حال فقد فعلت كل ما بوسعي لأعطي الحمقى الآخرين مقالًا ولم استطع، ربما هي فترة الجفاف التي أمر بها، على كلٍ فأنا كاتب وهذه صنعتي، أظن أنني قادر على كتابة أي هراء ينشر في تلك الجريدة، أمسكت قلمي و ذلك لم يكن عليَّ عسيرًا، وشرعت أكتب ما يبدو إليَّ نوعًا ما مدخلًا لقصةٍ قصيرة:

“جلست تلك الفتاة في شرفة منزلها تنظر للنجوم، بينما تتواري الغيوم خلف الأشجار الممتدة أمامها كأنها تهم بالهجوم وكأنها جزء من قصة زرقاء اليمامة، أو هجومًا شكسيبيريًا يسعى إلى الانتقام من ماكبيث المتمثل في ذلك المنزل الصغير، وفجأة تومض السماء بضوء برتقالي، وإذا بنيزك ينقض على الأرض مشتعلًا..”.

ما هذا الهراء أظنني فقدت موهبتي، وأنا أعلم ماذا أفعل عندما أشعر بهكذا شعور، أظنني سأستدعي “يونس” -وهو شخصية خيالية أكتب عنها المقالات والقصص الصغيرة كلما نضبت قريحتي الصغيرة وهي تفعل كثيرًا- ومن غيره يحل تلك المعضلة، استعدت قلمي مرة أخرى طمعًا في لحظات من التجلي واستطردت في الكتابة مرة أخرى:

“بدا يونس منزعجًا وهو ينعت تلك السيدة -التي ظن أنها سيد في بادىء الأمر- بالشعوذة، فمن يظن أن هناك امرأة بدون شعر وتمتلك كتلٍ عضلية في أماكن لم يحلم شبانًا مثلنا بامتلاكها، وفجأة تومض السماء بضوء برتقالي، وإذا بنيزك ينقض على الأرض مشتعلًا..”.

تبًا، أولًا: أنا لا ينقصني هجومًا آخر من تلك التنانين البرية اللائي يطلقن على أنفسهن لفظ “الفيمنست”، أولئك النسوة صيادون مهرة، فهم يعلمون ما يريدون ويقتلعونه بكل قسوة مهما كان، ولكن صدقًا أظنهم نساء لا يجدون “شغلة ولا مشغلة” وليس لديهم أي مسؤوليات لتحملها فقالوا في قرارة أنفسهم: أترون هؤلاء الرجال الذين يعملون بكد ليعيشوا حياة هادئة لما لا نحرق رؤوسهم ونقتلع أعينهم من محاجرها بينما هم مشنوقين بالقوانين التي نطالب بها يوميًا ويتم موافقتنا عليها، وأنا للأمانة لا أحمل أي ضغينة نحوهن بل ألعن الرجال المسؤولين عن تلك القوانين والذين يوافقون على آراء أولئك المعاتيه، ولكن دعنا لا نظلم أحد فأنا قد أبيع كليتي مقابل ثديًا.

وثانيًا: صدقًا ما قصة ذلك النيزك أنا لا أعلم؟!

وبينما أنا في ما أنا فيه أراعي شؤوني، فإذا بجوالي يرن ذلك رقم آخر مجهول، ما قصة تلك الأرقام المجهولة مؤخرًا؟ هل أصبحت مشهورًا لا سمح الله؟!

وعلى غير عادتي قررت أن أنهي معاناة كاظم الساهر وأجيب المتصل:-

ـإيه يا شق.

ـوعليكم السلام.

ـإيه ياد الأدب ده كله ده أنا مسجلك مجدي خرابيش.

ـ عذرًا يا أخ أظن أنك أخطأت الطلب.

ـ لأ أنا لسه مطلبتش.

ـ …..

ـ عايز اتنين بيسا وسنتي أفغاني ولو لاقيت كولومبي هات.

ـ صديقي لا أعلم عن ماذا تتحدث؟ ولكني أؤكد لك أنه لا يوجد أي جنسيات أخرى مع معارفي سوى المصرية.

ـ لأ ماسري لأ، كله مضروب يا زميلي.

ـعذرًا ولكن منذ وعيت على الدنيا وأنا أعلم أن الصيني هو المضروب!.

ـصيني؟! هو مش أنت مجدي الديلر؟!

أقفلت الجوال وأنا في قمة حنقي على شركات الشرائح الخلوية، لم يعيدون استخدام الخطوط بعد غلقها ألم تحل الرياضيات والتكنولوجيا تلك المشكلة بعد، ثم أنني في قمة دهشتي منذ متى والمخدرات تباع دليفري على الهاتف، أين ذهبت هيبة عملية التسليم والتسلم وكأنني أطلب البيتزا، قذفت جوالي المحفور عليه من الخلف الجملة الأكثر انتشارا في العالم “صنع في الصين” والشيء الوحيد الذي تأكدت أن الصين لا تصنعه هو المخدرات وكأنهم صنعوا من كل المنتجات نسخهم الرديئة، ثم توقفوا عند المخدرات قائلين أننا نستطيع إفساد أي شيء إلا المخدرات!.

ثم ما هذه السوقية التي يتحدث بها الرجل، أحدهم يجب أن يكتب مقالًا ينبه به الناس من انحدار اللغة، أخاف أن استيقظ يومًا لأجد كل من حولي يتكلمون بلغة لا أدركها.

حسنًا، يكفي انجرافًا عن الموضوع الأصلي، وهو عجزي التام عن كتابة حرف واحد يمكنني من نشره في الجريدة غدًا، لا أظنني سأنجز هذا العمل.

وبينما أنا في انشغالي عن أشغالي، جائتني فكرة عبقرية لم لا أقلب في الأخبار على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي عن أي شيء يستحق أن أكتب عنه، فهناك دائمًا أخبار، الأخبار لا تنتهي.

خاب مسعايَّ مرة أخرى وأنا أحاول إقناع المدونة اللعينة أنني لا أريد مشاهدة فستان هيفاء وهبي يسقط، ولا أهتم بالأمراء النيجيريين ولا أريد أن تنضم إليَّ تلك الحسناء في سهرتي، هالني ما أجد على وسائل التواصل الاجتماعي من الهراء وحمدت الله أنني لست كثير التهافت على تلك الوسائل ولا أريد الذهاب إلى الساحل “كدا كدا”.

وبعد التفكير والتفكير في حل لمصيبتي قررت أن أجد أي برنامج حواري على التلفاز، ربما ألتقط بعض الأفكار من هنا أو من هناك، فكما هو معروف عن مذيعي البرامج الحوارية أنهم أذكياء ويثيرون العديد من القضايا الهامة، وياليتني ما فعلت، فلم أجد إلا هراء يستضيف هراء على قناة هرائية ليناقشون كيفية زرع بيضات الهراء في الرمال الشرقية من أرض الهراء، هراء في هراء حتى أنهم لم يستضيفوا خبراء في الهراء، بل مجرد هواة لا يعلمون أي هراء عن الهراء، فها هي الراقصة تتحدث في الدين والرياضي يتحدث في السياسة، حتى أنني رأيت ميكانيكي يدعي أنه اخترع جهازًا لمنع تساقط الشعر، كل هذا لم يصدمني كصدمة رؤيتي لأحد المذيعين وهو يستضيف إحدى السيدات المهتمات بما يسمى “الإتيكيت” ليهيلني أنني طوال سبعة وعشرين عامًا أكل الموز بطريقة خاطئة، والله وحده يعلم أن آخر اهتماماتي هي أن آكل الموز بطريقة صحيحة.

بدا لي أنني جففت حقًا، وكأنه لا يوجد في جعبتي فلسًا أدبيًا بعد الآن، فحضرتني تلك المقولة التي تقول “لو أن للضفدع أجنحة، لما ارتطمت مؤخرته بالأرض كلما قفز” لأدرك تلك الحقيقة القاتلة، أنني أفتقر للأفكار الجديدة، فقد قتلت المواضيع التي تناولتها بحثًا، النسوية والعنف والحب واليأس والحزن جميع أنواع اليأس والحزن والسوداوية حتى أنني لا ينقصني حقًا إلا كتابة قصة قصيرة عن كاتب أزهق روحه غرقًا في البانبو من الاكتئاب، ربما يجب عليَّ طرق آفاقًا جديدة والكتابة عن أمور جديدة، فأنا لم أجرب قط الكتابة عن ما أشعر به، دائمًا ما أكتب عن العلاقات بين البشر رابطًا المواضيع التي أتناولها بأصناف الطعام كنوع من السخرية، وهو ما يبدو إليَّ أنها أصبحت سخرية عقيمة لا تنجب كأحلامي التي توقفت عن إنجاب الأمل، ولكن عن ماذا أكتب؟ ما الذي أشعر به الآن ويستحق الكتابة، أنا لا أشعر بشيء، اللهم إلا هذا المأزق الذي أنا فيه الآن، فأنا وكأي مصري أصيل استمتعت بالعطلة تاركًا مهامي للحظةِ الأخيرة، وحينها قد أستفيد من النيزك الذي سيهبط من السماء ليخلصني من التزاماتي، شرعت في الكتابة مرة أخرى فليس أمامي خيار:

“أعمل في تلك الجريدة كاتبًا منذ الأبد مقابل أجر قابل لتحمل معيشة شخص مثلي، ليس عليَّ سوى كتابة عمود أسبوعياً من ذلك الهراء سواء كانت قصة قصيرة أو خاطرة أو مقال”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!