مقالات

مراسمُ موتي ستكون مُبهرة

✍️ هاجر متولي

خُلقتُ من صلب رجل رحيم، وضلعِ أنثى متحابة، حتى أنني كدتُ أن أصدق أن العالم كذلك، لا يشوبه شائبة، ويملأه الحب والأمان.

كنتُ امرأة بدائية غير مؤهلة للاحتكاك بالأخرين، ولا بالتعامل خارج حدود غرفتي، ولم أعلم أنه لازمًا علينا الخوض في هذه الحياة، والتكيف مع سنفونيّة القدر.

لي طبع خاص، تجدني ممن يحب الأشياء بالليل، مُتيمة أنا به، فكل الأشياء فيه لها مذاق آخر، بخلاف النهار الذي يسوده الصخب والوضوح لكافة الأشياء الباهتة المعنى، فأنا ممن يرتبط بالأشياء ارتباطًا مميتًا، وكأني أعطي لكل شيء جزءًا من روحي، فيصعب علي تركته، كما لو أني تركت روحي سدى له.

ومع الأيام أصبحت بخلاف طبيعتي تمامًا، فلم أعد أتشبثُ بشيء، آمنتُ بأن ما هو لي لن يكون لغيري _ مهما كثُرت المُعرقلات _ وما هو لغيري لن يكون لي، مهما عانيتُ لأفوز به.

فأصبحت أفعل ما بقُدرتي وأنتظر، أنتظر أن تأخذ الأمور مجراها، ثم أنظر في النهاية، لأعرف ما هو نصيبي من الأشياء، وأيًا كان ما نَبَت في قدَري، فقلبي سيرضى، ويطمئن، وأنا أقول: ألم يكن ذلك قدرُك يارب؟ أنا ماثلةٌ له، بكامل الحُب والرضا، واليقين بأنك لا تُضيِّعني.

فما كنت استحبه زهدته مع الأيام، وما كان عائق لي أن أرى فيه شيء جميل، أصبح حاليًا من المسلمات في التعاملات، وكأن روحي ليست لها صورة ثابتة، وكأن القدر يُجبرنا على الاختلاف، واستكمل رحلتي وأنا أردد لذاتي: أنا لستُ جمادًا، ولست حجرًا، أنا كل الأشياء المرنة والصلبة في وقتٍ واحد.

ويظل الصراعُ بداخلنا لا ينقطع، بأي صورة نحن، أيًّا منها هي الأصل؟ فتشفق علينا أحلامنا بالإجابة، وكأنها تعطي لنا ما نحتاجه منه لنطمئن.

نرفضُ واقعنا وما نحن عليه، فيأتينا ليخبرنا من أين جاء إلينا، وعلى أي شاكلة سنكون في تلك الحياة.

رأيتُ في منامي الأخير امرأة تشبهني من الداخل، ولكن بصورة تختلف عني، أعي ما بداخلها وأعرف عما تبحث، وأدرك لما تحتاج.

رأيتها وهي تُدفن، وتسكنُ في قبر منير ومتسع، لا ترهبه ولا يُرهب _ يشبه ساحة فناء تؤنسها النجوم _ وهي تنشغل بالبحث عما به كعادتها.

رأيتُ نافذة كبيرة يشع منها النور، وأطفال صغار فرحين بكونها ستحمل للسماء، وبيوتًا سعدت بكونها أنتقلت إلى السماء، وأُخرى تبكي قهرًا، رأيت أباها وأمها يصرخان وجعًا على فراقها، وحينها رأيت الأيام تجري أمام عيني، كشريط سينما، حتى توقفت على صورتي الأولى التي كدتُ أن انساها، ووجدت قلبي يتوهج ألمًا، وكأن شيئًا أنغمس به بقوة فأفقدهُ الحياة.

وحينها استقيظتُ وأنا انهمر من البكاء، وأتساءل: من هي، أهي أنا؟ واستمعتُ لحديث ذاتي: تلك لحظة فراقك الحياة.

رأيتُ مراسم موتي، وأنا مازلتُ على قيدِ الحياة، وأردتُ أن أخفف عني وجع قلبي، فأخبرتُ نفسي قائلة: أن كل من على الأرض في ذمة الله، وأننا جميعًا في معية الله، ولكن من لا ينعم بالحياة، فوحده في موت أبدي إلى أن يلقى الله، أو إلى أن يفيضَ عليه رحمات من عنده.

فأبتسمتُ وأنا أردد: مراسم موتي ستكون مُبهرة، سيمنُ الله علينا فيه بما نحتاج، فوحدهُ يعلمُ أننا لا نحتاج إلا الأمان التي سلبتهُ منّا الأيام، وإلى أيام هادئة، وإلى التوقف عن الإرتطام بالتفاصيل الصغيرة، فهذا العالم مليء بالجفاف، ونحن لا نحتاج إلا أن نبتل بالاطمئنان، حتى نستطيع أن نعبر ما تبقى من الطريق بسلام.

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!