ابداعات

تباعد الأحباب في زمن الواتساب

✍️ ناجي شاهين

أحب مشاهدة القنوات الوثائقية، أحب عندما أرتشف قطرات الليل المسكوبة داخل فنجاني، أحب الصوت المندفع للأشخاص الموجودين بالفيلم الوثائقي وهم يتحدثون بإنجليزية متحمسة لسرد ما بداخل متحدثها من كلمات وأيضًا أحب ذلك الصوت الهادئ العميق للمترجم والذي يتداخل مع صوت المتحدث فيمنعك من الاستماع لكلمة واحدة مما تقال فلا تكاد تفهم العربية ولا تكاد تميز الانجليزية، وما أحبه أكثر هو تقبلي للأمر.

أحب أيضًا سماع تلك الأفلام الوثائقية التي تعرض الآثار القديمة التي تكتظ بها المتاحف، وما يثير دهشتي حقًا أن تلك المتاحف لا تتوقف عن استقبال الآثار الحديثة -هي قديمة بالطبع ولكن حديثة العهد بالمتحف- وكأن البشر القدامى لطالما شعروا بالملل فخطر الأمر برؤوسهم لماذا لا نعبث بأولائك الحمقى الذين سيأتون بعدنا بعشرة آلاف عام ونصنع لهم أشياء باهظة الثمن ثم ندفنها تحت الترات حتى تتشقق مؤخراتهم وهم يبحثون عنها -أنا لست ذلك العالم في أمور التغيرات المناخية- وكأن أسلافنا في كل أرجاء العالم كانت تجمعهم نفس روح الدعابة والرغبة الملحة لدفن الأشياء، مما جعلني أتفهم شعور طفلي الصغير عندما أجد يوميًا إحدى ألعابه -التي تعرقت صلعتي لسنوات فقط حتى أستطيع شراؤها- مدفونة في الفناء، أنا حقًا الآن أصدق علم الوراثة، ولكن ما لا استطيع تصديقه أبدًا هو ولع القدامى بالمباني العملاقة، وكأنهم تحت تأثير المخدرات ها أنا أتخيل “خوفو” وهو يمسك “الجوينت” بين أصابعه المقدسة بأمر أوزوريس ويقول لخفرع:

  • يا رجل لقد خطرت برأسي فكرة عظيمة، فلنبني أهرامًا عملاقة ونتركها في الصحراء في الجيزة.
  • يا رجل يا لها من فكرة خطيرة، أنا أفكر أيضًا في بناء سفينكس على اسم ذلك الميدان قرب القاهرة.
    لا أعلم بماذًا كان يفكر “خوفو” ببناء هرمًا عملاقًا في صحراء الجيزة بينما العاصمة تبعد بضع كيلومترات فقط، وكأنه لم يعجبه ازدحام القاهرة فقرر بناء شيء بالصحراء ليقنع باقي الفراعنة باتخاذها عاصمة جديدة.

ولكن ما أكرهه حقًا بشأن الأفلام الوثائقية عندما تجلس زوجتي إلى جواري وتتصفح ذلك “الفيس جرام” الذي تقول عنه إنه من وسائل التواصل، أي تواصل وأنا أرى ذلك الهاتف اللعين يجعلنا نجلس في بيوتنا مثل الأمريكان القدامى الكسالى، لقد أدركت خطر هذا الهاتف عندما توفي والد صديقي بمحافظة أخرى فاضطررت تعزيته “بمكالمة هاتفيه” كم هذا مهين؟! قبل تلك الهواتف الذكية الغبية كنت لأهز مؤخرتي اللعينة وأحضر العزاء اللعين بنفسي ولو كان في قارة أخرى، ولكنت شعرت بالذنب أنني لم أحضر التأبين أو حتى لم أحضر له كوب ماء عندما اختنق وهو يأكل “البيض” ولكن شكرًا لتلك الهواتف الغبية أجريت “تعزية هاتفية” ولم أشعر بذرة ذنب، آهٍ آه أيها الجيل التعس ماذا فعل لكم “البريد” لتقتلوه، لقد قتلتم معه التعاطف والصداقة والحب.

الحب كم أشتاق له على الطريقة القديمة، تكتب جوابًا سهرت ليلتين متواصلتين لتخرج مكنون قلبك على أسطره، ثم ترسله لعنوان محبوبتك بينما تدعو ألا يسقط في يد أخيها الأصلع مفتول العضلات الذي يتخذ من “الشحات مبروك” قدوة له، وتنقضي الأيام بينما يجد إبليس في مخاوفك وقلقك ملعبًا مرحًا لوساويسه وتكهناته اللامتناهية، وأخيرًا يأتيك الرد بعد أن أُنهكت روحك في انتظار الرد ونُهش قلبك تفكيرًا في ماهيته، وتفتح المظروف المنبعثة من بين طياته رائحة محبوبتك التي تعلق بأنفك كلما فكرت فيها، وتتزين الصفحات بقطرات من الدمع لو لم يكن هناك كلمات لكفت.
أين نحن الآن من كل هذا؟ الحب أصبح سهلًا في الحصول عليه، وكما يقول ذلك المثل الإنجليزي “easy comes easy go” فبينما مرت عليَّ أشد ليالي الشتاء بردًا تحت شرفتها لعلي أحظى بنظرة خاطفة عندما كنت مراهقًا، الآن كل ما يتطلبه الأمر لرؤيتها هو أن أحصل على تطبيق فايبر أو سكايب.

تلك التطبيقات اللعينة دمرت كل شيء حتى الورود يا صديقي، لقد زرعت وردة في شرفتنا في إصيص اشتريته من مصروفي الصغير ثم تسللت ليلًا مثل اللصوص، وظللت أحدف الأحجار نحو شرفتها حتى تخرج، لعنت أذرعي غير المتناسقة مائة مرة، ولكن مثل “توماس أديسون” لا يضيء المصباح إلا في المرة الواحدة بعد المائة، لم لا أتسلق المواسير مثل اللصوص لتكتمل الليلة إما بسجني أو مقتلي، وتسلقت المواسير وأنا ألعن مدرس التربية الرياضية الذي كان يجعلنا ننظف “الحوش” بدل من التدرب على هذه النوعية من الأشياء، ماذا سيكتب اللص المسكين في “السي في” وماذا سيخبرهم في الانترفيو؟! أن مدرس التربية الرياضية يقول النظافة من الإيمان، حسنًا إنه لص لعين لا يهم إن كان نظيفًا أو لا، فهو لن يذهب لحفل استلام الأوسكار، على أي حال ما ينتظرني بالأعلى يستحق أن أشقى لأجله بضعة أمتار، فالواقع أظن أنني سأسامح مدرس التربية الرياضية على تقصيره.

وبينما أنا أتسلق بيديَّ العاريتين وأضع الوردة بين أسناني أُمني نفسي بقبلة على عجل أو حتى ابتسامة ستكون أكثر من مجزية، ولكن ما كان ينتظرني حقًا هو لكمة من والدها الذي لابد وأنه رآني فقرر انتظاري بالأعلى، أنا متأكد أنني رأيت ابتسامتها بينما أُحلق من شرفة منزلها لأسقط “زرع بصل” في الفناء، ولكنني لا أملك رفاهية التألم فأطلق ساقي للريح وأنا أبتسم بينما ألهث فقد ابتسمت أقسم بالله أنها ابتسمت، وأقسم بالله أيضًا أنها احتفظت بالوردة بين دفاتر أحد كتبها، ولكن شكرًا لتطبيق “واتساب” الآن، فيمكنني إرسال واستقبال الورود لمن وممن أردت دون تسلق المواسير ودون رؤية الابتسامة، ودون التمكن من الاحتفاظ بها حتى تذبل بين دفَّي مجلداتي.

وسائل التواصل الاجتماعي هذه تذكرني بخالتي “اللتاتة” التي قد تكف عن التنفس ولا تكف أبدًا عن النميمة “الفنان فلان صفع من، والفنانة علانة أحرجت من، وبائع ذلك الشيء أصبح تريند ما… ” اللعنة أكره عندما تجلس زوجتي إلى جواري وتجبرني قصرًا على سماع الأخبار الجديدة على المواقع الغبية، أقسم بالله أنها ستقتلني غيظًا ذات مرة وأنا اسمع أخبارها التافهة، فبينما أسمع أفلامي الوثائقية المفضلة عن الآثار الفرعونية المعروضة في أكبر متاحف إنجلترا وفرنسا، يسعدني سماع أن الفنانة “لا أدري من” تم القبض عليها في المطار وهي تحمل “سيجارتين حشيش” كيف تظن نفسها ستمر بهذه الشحنة المهولة جدًا من المخدرات؟ إنها ليست وكالة بدون بواب، لن تعبر ذبابة من مطاراتنا فنحن بلد الأمن والأمان!

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!