كان صباحا من صباحات نوفمبر المميزة
الشوارع مغسولة بأمطار الليلة الماضية
الشمس محتجبة خلف سحب كرنفالية الألوان
برودة خفيفة تخترق المسام وتلفح الروح فتوقظها
كانت مفردات الكون كلها مشحونة بجمال يشى بأمر وشيك الحدوث
وصلتُ الى محطة الباص المواجهة للمطعم الشهير
اّحاد من الناس يقطعون مجال الرؤية دون زحام
وعلى المقعد المعدنى لمحطة الباص كانت تجلس وحيدة
معطف جلدى خفيف، جيبة قصيرة وحذاء طويل الرقبة
شعرها ينسدل على جانب وجهها فلا يبدو منه شىء
جلسة عادية لفتاة عادية ليس فيها شىء ملفت سوى ما تمسك بيدها
رواية “جين اير” للمؤلفة الانجليزية شارلوت برونتى
ذلك العمل الذى ارتبط معى بسحر يضفيه على كل الأشياء
جذبتنى اليها الرواية فتأملتها
أصابعها النحيلة ببشرتها البيضاء الناعمة
عطر أنثوى هادىء يتسرب الى الهواء البارد فيكسبه دفء عجيب
لاح الباص قادما من بعيد فنبهتها لحضوره
وهبتنى التفاتة مبتسمة وشكرتنى وهى تضع كتابها فى حقيبتها
وصل الباص فقفز اليه كلانا
اسقطنا العملات المعدنية فى خزانة النقود وجلسنا
عادت تقرأ وأنا أرقبها من بعيد
فى الجامعة نزلت الى محطتى أولا متحديا فضولى المنادى بمعرفة اتجاهها
تتابعت الأيام وتكررت رؤيتى لها
هل هى مصادفة ألا أراها الا وهى تقرأ؟
هل هى مصادفة أن تقرأ فى كل مرة كتابا أحبه؟
لم أتمالك نفسى حين رايتها تمسك Arabian nights
سألتها بدون مقدمات عن رأيها فى شهرزاد
فاجأتنى اجابتها حدّ الذهول
حدّثتنى عن شهرزاد الغربية
شهرزاد أخرى غير التى ترعرعت فى كنفها
شهرزاد أقل خجلا وأكثر طموحا وجرأة وذكاءا
هل خلعت شهرزادى شرقيتها وهى تعبر المحيط الى عالم الحداثة
وبقدر ما صدمتنى شهرزاد بتغيرها الجذرى بقدر ما جذبتنى لأستكشف مزيدها
اتفقنا على أن نتناول الغداء سويا فى مطعم الجامعة
التقينا فحدّثتها عن شهرزادى وحدّثتنى عن شهرزادها
سحبنى موج أفكارها المترع بموسيقى جديدة لم تعتدها مسامعي
لم انتبه الى أن جلستنا بعد الغداء جاوزت الساعات الثلاثة
انتهى اللقاء ولم يرتوى الظمأ فطلبت موعدا اخر
اعتذرت لأن اليوم كان اخر يوم لها فى الجامعة
انقضت منحة الثلاثة أشهر التى كانت تدرسها فى الجامعة
ودّعتنى ودعتنى لزيارة بلدها يوما
وعدتها بالمحاولة وجاملتها بدعوة مماثلة
مضت أعوام ورغبتى فى تلبية الدعوة لم تخبو لكن تدفعها المشاغل الى المستقبل
يوما ما سأعبر البحر لأرى شهرزاد الغرب التى صمتت عن الكلام المباح قبل اكتمال الحكاية
د. كرم علام
