ابداعات

يونس “أرض أو”

بقلم/ناجي شاهين

وقفت أمامه تتحدث بصعوبة تكاد الكلمات تخرج من أنفها بدلًا من فمها، لا حروف جر ولا أفعال في مكانها وكل جملها مبنية للمجهول دون أدنى دراية منها، وجميع الكلمات تخرج من فمها بطريقة خاطئة وأحرف ناقصة، كأنك تقرأ رواية بالعامية رديئة الطباعة، ولكن مع تلك الشفتان إذا تجشأت ستسمع شكسبير اللعين يتحدث.

– حبيبتي لماذا ترهقين نفسك؟قالها بينما يتلمس أذنه التي احمرت ثم أكمل قائلًا:

– لا داعي للتحدث بالعربية، يمكننا أن نتواصل بكل أريحية عبر ثلاث لغات أخرى.

– أردتها أن تكون لحظة رومانسية.

اختارت أن تتحدث الإنجليزية باللكنة البريطانية المتعالية هذه المرة وأكملت قائلة

– كونها لغتك الأم.

مرة أخرى مع تلك العينان، إذا أمسكت تلك الجميلة بمنجل وجدعت أنفي فسأرى ذلك رومانسيًا، الفتاة نسخة حية من إفروديت ولكن بلكنة بريطانية محببة.

بات الآن واضحًا لصديقنا، تلك دعوة جلية للعيش في تلك البلاد مرة أخرى رفقة “هيلين” الفتاة التي يسكن البحر عينيها وينام القمر على وجنتيها وتشرق الشمس من محياها، تذكر ذهابه الأول ومقابلته الأولى لهيلين ولكننا لسنا هنا لنثرثر عن الجانب الرومانسي الحالم لذلك الأمر، إنها الفرصة الحقيقية والكبرى لصديقنا، الفرصة التي لطالما تمناها وانتظرها، إنها الانتصار المهول الذي يعقب قفل الدومينو بينما لا تحمل في يدك غير “البلاطة” ولكن البلاطة هنا هي جواز سفر يمكنه إرسالك للمريخ حرفيًا.

صديقنا عالم من نوع ما أبحاثه اقتربت من شيء مهم لم أفهمه كوني لا أفقه حرفًا عن العلوم، درس في جامعة عربية في بلد عربي ونظرًا لتفوقه منحته الجامعة عامًا دراسيًا كاملًا يدرس في بلاد “الفرنجة” حيث قابل “هيلين” لأول مرة، تلك الساحرة المستديرة

-إنها حقًا مستديرة رغم نحافتها وتناسق جسدها

– ولكن دعونا لا نجعل ذلك يدور حولها فبعد عودة صديقنا إلى وطنه الحبيب الرائع وحصوله على تلك الوظيفة المرموقة في مركز الأبحاث أيقن أن وطنه الحبيب لا يدير بالًا لأي كان ما يفعله، تطلع إلى السفر وأخيرًا ساعدته “هيلين” البراقة الناعمة ذات ال…

دعونا نعود لموضوعنا، تلك الرحلة مختلفة هذه المرة فإذا ذهب من المحتمل ألا يعود، وإلم يذهب فليودع للأبد فرصته الوحيدة للحصول على “جائزة نوبل”

-إن كان لديه فرصة أبدًا

– وهكذا وُضع صديقنا بين المطرقة والسندان، ولكن “هيلين” .. رغم أننا اتفقنا على ألا نثرثر عن الجانب المشاعري وعلى ألا نجعل قصتنا تدور عنها،ولكن أي غبي سيدرك فورًا أن تلك الفاتنة لا يجب أن تضيع من يده، ناهيك عن تلك الجائزة التي يستحيل الحصول عليها بتلك الإمكانيات الواقعة بين يديه، كان الأمر معقدًا حتى إن صاحبنا استدعى جلسة الرفاق..

– فلنعد قائمة بالمميزات والعيوب كما هو معتاد في اتخاذ قراراتنا.

– انت تمزح! هل تنوي فعلًا المقارنة بين بلاد تهتم بالقوانين بدءًا من أدنى قوانين المرور بدولة يعد ارتداء حزام الأمان فيها إهانة للسائق.

– صديقي عليك الرحيل فهذه فرصة لن تتكرر.

جميع الآراء كانت حول كيف سيكون أحمقًا لو أضاع هذه الفرصة، لكن هناك شيء داخله يمنعه من اتخاذ قرار الرحيل، أيها الأحمق لقد سبق وقلت لقرائنا أننا سنتجنب الحديث عن المشاعر وتلك الأشياء، الآن سيتوجب عليَّ القول أنك تشعر في أعماقك أنك تخون الأرض التي أنجبتك، وأنك لا تريد الافتراق عن أهلك أو أولائك الحمقى حولك، ولكن ألم تنس شيئًا يا صديقي؟ أنا أعلم أنك في تلك الفترة كنت صديقًا مقربًا ليونس أنا واثق أنه سيعطيك نصيحة خارقة.

وهكذا قرر صديقنا الذهاب ليونس علَّه يجد على النار هدى، وعندما وصل رأى الصورة المعتادة التي حرقت في ذهنه ليونس، شاب ثلاثيني يجلس في مقهى وحيدًا، يستنشق التبغ بدلًا من الأوكسجين وتحيط به سحابة من الدخان بينما يحدق للعدم، يبدو كرسمة قد يرسمها “بيكاسو” أو رواية يكتبها “فيكتور هوجو” ليضاهي رائعته “البؤساء”.

– أتذكر صديقي “ناجي” ذلك الأحمق الذي يكتب مقالاته في تلك المجلة متخذًا اسمي كعنوان لمقالاته.

أقال يونس عني ذلك للتو؟!

– أليس هو ذلك الفتى الذي أعتاد أن ينظر أليك لساعات دون أن يرمش أثناء جلستنا.

– نعم.

– إنه شخص غريب.

– “لازلت أستيقظ من نومي مذعورًا حتى الآن بسبب تلك النظرة، لكن الحق يقال.. الفتى عبقري.

هذا ما أتوقع أن يتفوه به يونس عني، وها هو يكمل حديثه الرائع قائلًا:

– لقد أرسل لي منذ يومين مسودة روايته الجديدة بعنوان “أرض أو” وهي رواية قبيحة كقباحة وجهه، ولكنها تحمل رسالة ما، عليك قراءتها.

– لا تستهويني حقًا قراءة الروايات والكتب.

– تمزح، صحيح؟! أنت دونًا عن جميع أصدقائي لا أذكر أني رأيتك بدون أن تكن ممسكًا لكتاب بين يديك.

– صحيح، كتب فيزيائية ورياضية وليس كتاب كيف تصبح مليونيرًا في خمس دقائق، أو رواية أحببت جانغكوك.

– لا بأس، يمكنني أن أقص ملخصها لك.

رغم أن في ذلك حرق للرواية ولكن أظن أني متأكد أنها ستفشل في جميع الأحيان، إذن فمساعدة صديق أنفع ومن هذا المنطلق استطرد يونس قائلًا:

– اسمها أرض أو، حيث الجميع بها يسيرون حبوًا وكل من يتعلم المشي يتركها، حتى لم يبقى فيها سوى الأغبياء المغيبين الذين يظنون أن من يمكنه السير يجب أن يقتل.

صمت صديقنا قليلًا، أظن أنه وجد مبتغاه في كلمات يونس، أقصد كلماتي أنا على لسان ذلك اليونس الذي حرم نفسه من التواجد في عناوين مقالاتي القادمة بسبب حديثه عني، أنا فعلًا أحدق ولكن هذه طريقتي في التركيز فأنا شخص بصري يستوعب أكثر من خلال البصر ولست واقعًا في غرام سحنته.

– على كلٍ يا صديقي، لا أظن أنك هنا لتسمع عن ذلك الوغد ورواياته الحقيرة.

لا أظن أن هناك وغد غير يونس الذي استطرد قائلًا:

– سمعت أنك تريد استشارتي في شيء مهم.

– لا عليك، عرفت ما أريد دعنا من هذا.

ابتسم صديقنا وهو يوجه حديثه لذلك الوغد الجالس أمامه ثم تمتم بصوت لا يسمعه سواه:

– لن أترك أرضي لتصبح أرض أو.

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!