
✍️ إسراء حمدي
كنتُ في إحدى الكافيهات بحيّ وسط البلد، واضعًا قلمي في منتصف المذكرة، يجول في خاطري عمّا سأكتب اليوم؟ فبعد انتشار كتاباتي ونجاحها أردت أن أسلط الضوء على بعضٍ من الأفكار الاجتماعية، المُتوارية خلف عمود النسيان!
لكن.. عندما أقدّم على الفكرة أتراجع! بسبب صوت رجلٌ كبير، يجلس محني الظهر وفي يديه عكازته، يتحدث باستمرار دون توجه الكلام لأي أحد، فشد انتباهي له كثيرًا، ظلتُ أنظر له أريد أن أفهم ماذا يقول! هل هو هُنا بمفرده أم معه أحد؟ رُسمت ملامحي بحالة من الحزن بسبب تركه هكذا.. ليقطع شرودي صوت ابنه. رجلٌ ضخم البنيان، بصوته خَشن -أظنه يستخدمه بقوة إلى أن خُدشت حنجرته-، يتحدث مع والده كأنه صبي صغير، تارة بهدوء وتارةً أخرى بنفور!
لم تروقني معاملاته، لكني مُلقي بتركيزي معهما أريد أن أعرف ماذا سيحدث فيما بعد! يدهشني تبسم الرجل العجوز! لمَ وولده يحدثه، ظل يُتهتم بالكلام.. حاولت الاقتراب منه لأسمعه فقال: حقك يا ولدي، افعل بي ما شئت فواللهِ ما تركت أبي إلا وكنت أفعل معه كل هذا، لم أتحمل كبره وكثرة طلباته عندما خف عقله وبدأ يتحدث بلا فائدة..
يا الله! كانت كلماته تحمل في طياتها الحزن، كل الحزن.. طريقة كلامه، موجه إلى شيءٍ واحد فقط كأنه يحدثه هو، بدوت لا أعلم أكان يستحق فعلًا هذه المعاملة، أم أنه فقد حسن تربية ابنه؟
وقتها تذكرت.. عندما كنت بمقر عملي، وحكت صديقتي عن قريبتها، تلك البنت التي تحملت من والدة زوجها المُّر والقسوة! تضع لها سم الكلام والإهانة في الأكل، والشرب، والنوم، والقيام..
كانت تقسو عليها دون رحمة، الكثير والكثير من الأوامر والاتهام وخلق المشاكل، لكن عندما كَبُرت، وذهب بيضائها، وزالت هيبتُها، ووَهن بها حالها، تمكن الشيب منها، لكن عائد عقلها إلى ما كان..
كانت أول الناس حاملةً إياها، تُعاملها كطفلة، تحضر لها الطعام وتُطعمها، تغير لها ملابسها، تنظفها، تأخدها وتهتم باغتسالها ومظهرها!
رغم قسوتها عليها، إلا أنها في مراحل أرذل العُمر لا تفقه شيئًا..
فتحت مذكرتي وأمليت بعد تذكري قول الله تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا).
لكي لا يعلم من بعد علمٍ شيئًا! ما ألمه من ابتلاء! كهلٌ يعود كالطفل الصغير، يهوى عقله ويُفرغ، لا يفقه شيئًا من تصرفاته، أصحيحٌ هذا أم خطأ، لا يعي فقط يتذكر شيء واحد، ماذا كان يفعل.
هنا قولت يا رب: هل جزء الإحسان إلا الإحسان؟ أم لرحمتك بهم قولًا آخر..
هُنا تظهر حُسن التربية، أو بمعنى أدق الرحمة: تخلق في القلوب كطفرة صغيرة، أما حاول الشخص الاهتمام بها ورعيتها، أو بغضها والبُعد عنها!
لكن ما أعرفه أنا جيدًا، أن المرء يعيش على ما يكمن في قلبه، كل ما يرميه سيحصده، وإن كبح رمي حسن المعاملة، سيقابلها بجفاء حصاده.
فإذا وجدت الطيبة واللين والرحمة، بَطُلت القسوة وزالت!
_تمت كِتابة القصة، ليس من وحي خيالي وإنما من صنع الواقع.
«نحن نكتب عما نريد تحقيقه، لا ما نشعر به».
توقيع الكاتب:
إ. ح.