ابداعاتقصص

الغياطلة

شريف جلال القصاص

كثير من تفاصيل وقصص ومرويات تاريخ الجاهلية في الجزيرة العربية كانت تحتاج تَدَّخل؛ لترميم بعض الأجزاء توضيح الغامض أو استكمال الناقص وهو ما قمت به في واحدة من أغرب قصص فترة ما قبل ظهور الإسلام، وهي معركة الغياطلة بين الإنس والجن فهي حقيقة بنسبة كبيرة من وجهة نظر أبن كثير في كتابه الرائع في التاريخ البداية والنهاية، أعدت تصور الأحداث دون المساس بالأصل مع بعض الخيال البريء، أو هذا ما حاولت فعله.منذ بضعة الآلاف من السنين، في قصر نُحت بعناية بكهف داخل جبل وَعًر وقفر -يشرف على مكة- إجتمع الآلاف في حفل بدا غاية في الإبهار؛ ليليق بعقد نكاح أبن أخت زعيم الجن في الحجاز على واحدة من أميرات الجن ذات الحسب في بلاد اليمن، الطعام الشهي تطوف به جواري الجن ذوات الحُسن، الشراب الخاص- الذي يجمع بين مذاق البن العربي والنييذ غير المُسكر- يوزع في سخاء، الزبرجد والياقوت والزئبق الأحمر بعض من الهدايا التي لا يقبل أقل منها تقدم للعروسين، ترانيم وأصوات المعازف الناعمة تشكل مع الضحكات المحتشمة، جو راق يناسب الطبقة الأرستقراط من ذلك العالم الخفي.

الكل يشعر بالسعادة، وحدها والدة العريس السيدة بهنام كانت تشعر بقلق، أخفت ذلك الشعور عن الحضور وهي تقترب من أخيها جمار بن شعزون؛ لتحدثه في شيء ما، تنحى المحيطين بزعيم الجن من سادات العالم السفلي احترامًا للخصوصية بينهما، أخبرته أن شيء ما يشعرها بالخطر وأنها تلاحظ عيون تراقبها، تلفت زعيم الجن بحرص ثم أخبرها أن لا تقلق وأن كل شيء سوف يكون على مايرام.

ثم عاد والتفت إلى أعلى، قرب كوة صغيرة تعلو أفريز في سقف القصر- خصصت لدخول ضوء الشمس- شعر بحركة ظل، وقبل أن يتحقق من الأمر، سمع صوت حاجب القصر يعلن عن قدوم أحدهم وسط أصوات استهجان من الجميع، أنه عقيق بن شهبار أحد ابناء عمومته، أسرع جمار في غضب في وجه الضيف يسأله بعنف:- أرى أنك لا تأبه لكرامتك، لما أتيت؟- نحن ابناء عمومة، والعريس في منزلة أولادي وقد جئت أهديه هدية عُرسة.

ثم أخرج قطعة من الزبرجد ليس لها مثيل، لكن جمار ألقاها بعيدًا وحاول أن يصفعه، أمسك عقيق يده وقال له:- أنت تبالغ في عداوتي، ولا أجد سبب لذلك!- سمحت لابنتك بالزواج من أنسي.

– لست أول من يفعل ذلك، تعلم أن الآلاف الجن والبشر فعلوا ذلك.- تقصد العامة والعبيد.- وماذا عن ابنة ملك الجن في اليمن والتي تزوجت من آدمي وأنجبت منه الملكة بلقيس ملكة سبأ، أنهى زعيم الجن الحوار وقام بطرد عقيق، الذي خرج يشعر بالمهانة ويتوعد الجميع في غضب.

في دار الندوة اجتمع سادات قريش يستعدون للتجهيز لرحلتهم التجارية الشتوية إلى اليمن- في غضون عشرون يومًا- اتفق التجار على كل الشيء وتأكدوا من سلامة الدواب والطعام والشراب، وكالعادة ضربوا الاقداح للحصول علي موافقة اللات والعزى، وفي النهاية جاء وقت السمر، القينات تغني، العبيد والجواري يحملون الخمور التي وزعت على الجميع بسخاء حتى غابوا عن الوعي إلى أن أيقظتهم حرارة الشمس قرب الظهيرة.

سألت بهنام ولدها الوحيد وهي تدمع من الفرح:- بني هل أنت سعيد مع زوجتك؟ قَبل رأسها وأخبرها أنه سعيد برضها عنه.

برغم أن سمهون أكمل بالكاد أسبوع فقط على زواجه، خرج من عش الزوجية على أطراف منى إلى قصر أمه في مكة؛ ليقضي معها بعض الوقت، ولأنها مازالت تشعر بوَجل، ربما من النوع الذي لا تدرك سببه، نظرت إليه وسألته ما يشغل باله، أخبرها أنه يريد الطواف بالبيت الحرام في النهار، ارتعبت وحاولت أن تخذره من غدر أهل مكة لكنه ألح عليها، قبلت رغم شعورها بأنه ربما لن يلتقيان..

خرج الشاب وطاف بالبيت سبعًا ولم يلحظه أحد، شرع في العودة وبينما كان يمر من بين بيوت بني سهم نظر إليه شاب من القبيلة بريبة ثم رماه بسهم فقتله.طار الخبر إلى الأم المكلومة فكادت تموت حزنًا، تمالكت نفسها وطافت على أعمامه وأخواله وأخبرتهم فاشتعلت نار الانتقام فيهم واقسموا على إحراق قلوب بني سهم، أستيقظت قبيلة البشر على فقد عشرات القتلى من الشباب.

ثارت ثائرة بني سهم أو الغياطلة واجتمعوا ينظرون أي قبيلة جنت على نفسها وأغارت عليهم ليلًا، اقتحم المجلس شاب وسيم يعيش في أحد أودية مكة له عينين حمراوان مثل الدم سأله أحد سادات بني سهم:- من أنت أيها الشيطان؟- أسمي جلمود.

وأعرف سبب ماحل بكم، واخبرهم أنه قد ترصدواحد من قبيلتهم لشاب من الجن فقتله، وقد اقسموا أن يثأروا ويقتلون كل سادات قبيلتكم عوضًا عنه. وحين سألوه ما أدراه أنه من الجن؟تبسم ابتسامة غامضة ومرعبة اعتبرها إجابة واضحة، ثم أكمل أنه يستطيع أن يقدم لهم العون، ولا سبيل للثأر والنصر على الجن الغاضبون إلا به، وأمرهم أن ينفذوا ما يأمر به بكل دقة، وقد كان….

جمع زعيم الجن جنوده وحاولوا قتل سادات بني سهم في فرشهم غيلة مثل الليلة الأولى، لكنهم فشلوا بسبب خطة جلمود، ولم يجدوا إلا بعض النساء والأطفال والعبيد وبعض العجزة من بني سهم قتلوهم. طافت بني سهم تجيش من شباب القبيلة وحلفائها وعبيدهم وصعدو الجبال فقتلوا الجن الذين تشكلوا في صور الحيات والعقارب وهوام الأرض، ودليلهم في تلك المعركة جلمود ذلك الشاب الذي يشبه الشيطان.

ظلت الحرب غير المتكافأة ثلاث ليلٍ، وفي آخر ليلة جلس زعيم الجن مع مستشاريه يحصر خسائره في تلك المعركة، وكاد رغم مكانته أن تسقط الدموعه من عينيه، تحدث أحدهم أن في الأمر خيانة لاشك، وتسأل كيف استطاع البشر الوصول إليهم وحصد أرواح العشرات منهم بهذه السهولة، بينما كلما حاولوا أن يقتصوا منهم يفقدون المزيد من القتلى، تكلم آخر وذكرهم تهديد جمار لهم جميعًا في حفل العرس المشاؤوم.أكد آخر ذلك الرأي والدليل أن عقيق وأتباعه لم يصبهم مكروه، خلافًا لسائر قبائل وعشائر الجن في مكة، توصل جمار إلى يقين أن عقيق ساعد اصهاره من البشر وخان قومه لينتقم منهم على هجره، كعادة كل خائن في تبرير خيانته، انتهى الاجتماع ولم يعد هناك مفر من إعلان الهزيمة، ومعاقبة الخائن.

الجن كان أول من صرخوا من الألم ولم يجدوا مفر عن طلب الصلح، وتجرع مذاق الذل والعار والاستسلام لشروط المنتصر ولو موقتًا.في اليوم الثالث سُمع هاتفًا على جبل أبي قبيس يهتف بصوت جهوري يسمع من بين الجبال:يامعشر قريش: الله الله- فإن لكم أحلامًا وعقولًا أعذرونا من بني سهم قد قتلوا منا أضعاف ماقتلنا منهم أدخلوا بيننا وبينهم بصلح نعطيهم ويعطونا العهد وجاء وقت محاسبة الخائن، أرسل زعيم الجن في مكة رجالة للقبض على عقيق.

في مكان موحش على أطراف وداي ذي طوى جلس عقيق يستمع لواحد من عشيرته يخبره بآخر ماتم في تلك الحرب بين الإنس وقومه من الجن، لم يستطع أن يخفي أثر الشماتة الواضحة على وجههه لكنه حزن على كثير من أصدقائه وأقاربه الذين قُتلوا في تلك الحرب، لم يكن يعلم ما ينتظره من خطر ويقترب منه بسرعة كبيرة، سمعوا صوت يقترب منهم وساد الصمت حتى يمر ذلك البشري فلا داعي لمزيد من استمرار الصراع الدامي وليتم ذاك الصلح أو الاستسلام، تجنبًا لمزيد من الخسائر.

جلس جلمود مطأطأ رأسه قريب من أولئك النفر من الجن، وقبالة عقيق مباشرة، رفع رأسه إليه ونظر في عينيه مباشرة ما أثار رعب الجني، لكنه تجاهل الأمر فربما كانت نظراته دون قصد، ثم تكلم الشاب وهو يرفع اناء به ماء لونه ابيض يشبه اللبن قال في هدوء وثقة تثير القشعريرة:أنتم في خطر، زعيم الجن أرسل من يأتي بكم لقتلكم جزاء خيانتكم والتواطؤ مع البشر وإرشادهم على أماكن سكن قبائل الجن وسوف تنكر ذلك، لكن من سوف يصدقك وقد توعدت الجميع يوم العرس.

خرجت أصوات مثل حشرجة صدر من يجود بنفسه، ربما محاولة لبث الرعب في نفس ذلك البشري، الذي قام بدوره بسكب نقطة صغيرة من ذلك السائل الذي معه على قدم واحد من الجن الجلوس؛ فصرخ بشدة وتصاعدت رائحة مثل شواء اللحم، ثم أخبرهم أنه يستطيع أن ينقذهم، لكن في البداية لابد أن يتشكلوا في هيئة البشر، لم يكن هناك مفر من طاعة الأمر.

ضحك وهو يسخر من الهيئة التي صاروا عليها، ثم شرح لهم ما يجب فعله، من أنهم سوف يصحبون تجار مكة في رحلتهم إلى اليمن، وأوصاهم ألا يثيروا الريبة؛ فيكشف أمرهم وعندها يتم تسليمكم لزعيم الجن، نفذ المساكين الأمر بدقة وعادت القافلة بعد شهرين تقريبًا، واستقبلهم من جديد في نفس المكان ليخبرهم أنهم نجحوا في الاختبار، وسوف يتحتم عليهم البقاء في تلك الصورة للأبد- يعيشون مثل البشر ويتعاملون معهم كجيران يأكلون طعامهم ويرتدون ملابسهم يعملون أعمالهم، يتحدثون بطريقتهم- ثم أكمل طوال النهار، ثم إذا جنى الليل يمكنهم العودة لطبيعتهم، وسوف يدفعون مقابل اخفائهم بين البشر مقابل زهيد، وهو مساعدتهم في إخراج الكنوز من البحار والجبال أو في باطن الأرض، يبدوا أن الجن المساكين سوف دفعون ثمن باهظًا على خسارتهم في تلك المعركة مع بنو سهم أو الغياطلة.

لكن هل يقبل عقيق ومن معه ذلك الأمر أم يتمرد …سوف أخبركم به في المرة القادمة..

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!