بقلم/ الشيماء أحمد عبد اللاه
اليوم وفي تمام الساعة الثانية عشر ظهرًا، بدأتُ في عملي مستعينة بالله على أن ينقضي اليوم سريعًا، وأن أعود لمنزلي سالمةً غانمةً، لكن أحيانًا، ليس ما نوده دائمًا يحدث…
أثناء انشغالي في عملي، تلقيتُ اتصالًا غريبًا من عميلة تابعة لشركتنا، وكان ذلك في تمام الواحده والنصف، بدأت المكالمة، بالسلام، ورددت تحيتها، ثم أخبرتني أنها تود ابنتها نادية؛ قلت لها الرقم خطأ سيدتي، اعتذرت مني، وأغلقنا الخط، وجدت رقمها بعد دقيقة على شاشة هاتفي، وقمت بالرد عليها، رددت مرة أخرى، أريد ابنتي لتأخذني من هنا، لا أطيق العيش، قلت لها أين أنتِ؟
قالت: أنا بدار رعاية المسنين، أخبري نادية ابنتي لتأخذني، إنه رقمها، لا أطيق العيش هنا، الديدان من حولي، والطعام نفذ مني، وأيضًا رائحتي أصبحت كريهة للغاية، أريد نادية فقط، أخبريها أن تأتي الآن، لم أنطق بكلمة البتة، غير أنني أخفيت دمعتي عنها، حتى لا تسمعها، قلت لها: أخبرني اسم ابنتك كاملًا، سأحاول إيجادها بالتأكيد، قالت السيدة: لا أعلم، إنها نادية، ابنتي الجميلة، وفجأة أُغلق الخط.
حاولتُ مرارًا أن أتصل على الرقم، ولكن الشبكة كانت خارج التغطية، قلت في قرارة نفسي سأبحثُ عن هذا الرقم، علني أجد ما يشفي صدرها، وبالفعل وجدت الرقم باسم دار المسنين والعجزة بمنطقة المرج بالقاهرة، حاولتُ الوصول لأي معلومات عن المكان، وبالفعل توصلت لرقم عاملة هناك، قمت بالاتصال عليها؛ لتخبرني أن جميع من هنا في هذه الدار، جاءوا أبنائهم؛ ليضعوهم هنا، وبالفعل المرأة التي تحدثت لي، لديها ابنه تُدعى نادية، هي من تركتها هنا، ورحلت، ولا نعلم كيف توصلت إليك، لكنها أيامها معدودة، فلقد أُصيبت بالزهايمر، وأعطيناها هاتفًا؛ لأنها طلبت هذا كثيرًا، وقررنا ألا نحرمها من شيء في آخر عمرها، صمتُ قليلًا، ثم أخبرتُ العاملة، أن تقول لها أنني نادية، وأنني سوف آخذها قريبًا، علني أفكر في حل لأحد يأخذها في آخر أيامها هذه.
بالفعل في الغد تحدثت السيدة العجوز: قالت بصوت مرتفع ونحيب، نادية ابنتي، كنت أعلم أنك ستأتي، أنت لن تتركيني، أحبك كثيرًا عزيزتي، بدأت تقص عليّ طفولتي في نظرها على أنني ابنتها، أخفيتُ كل دمعة تنزل من عيني في صمت تام، وأنا أستمع بكل حفاوة، وأقول في نفسي، كيف فعلت بها هكذا يا نادية؟
ساعتين وهي تتحدث، ولكن حديثها كان كله تكرارًا، لكل كلمة تقولها، تأت ثوان، وتكررها؛ لإصابتها بالزهايمر، لم أقل لها قلتِ هذا سابقًا، أو حتى جعلتها تشعر بشيء من الشفقة، استمعتُ لها بكل حب.
قبل أن تغلق الهاتف؛ لتخلد لنومها، قالت في خفةٍ ولُطفٍ: أحبك ابنتي وحببيتي، تصبحين على خيرٍ، موعد دوائك في التاسعة، إياك ونسيانه، ثم ضحكت.
كيف لها حتى وهي تعاني من الزهايمر، تتذكر موعد الدواء؟ وكيف لابنتها أن تتركها بعد هذه الضحكة التي ثلجت صدري؟
انتظرت الصباح بفارغ الصبر؛ حتى استمع لحديثها الشيق، لكن لا اتصال حتى السادسة مساءً، أصابني القلق، والحيرة، اتصلت في الثامنة على العاملة؛ لأطمئن عليها.
أخبرتني العاملة أنها ماتت، قلت لها: هيا أود مكالمتها الآن، قولي لها نادية ابنتك تتصل.
كررتها مرة أخرى: ماتت السيدة، ولكنها تركت لك يا نادية رسالة مطوية.
قلت لها: افتحيها سريعًا، وأنا أُخفي دمعتي بكل قوة، على أمل أن يخيب ظنها، بدأت في قراءة الرسالة المطوية، وكانت….
تابع……
(أعلم من البداية أنك لست نادية، لكني أحببتك مثلها، صوتك يشبهها كثيرًا، أحببتُ أن أستمع لصوتك، وأتخيلها، أتعلمين نادية ليست سيئة، أظن أنك بالتأكيد لعنتيها، حينما كنت أتحدث معك على الهاتف عن طفولتها، هي أجمل ما حدث لي على الإطلاق، تركتني هنا لأجلي، أتعلمين نادية توفيت بسببي، وألوم نفسي دومًا على ذلك، تتسألين كيف حدث هذا؟
إليك ما حدث: ولدت نادية شديدة الجمال، رقيقةً كأبيها، شعرها منسدل كالحرير، عينيها زرقاوين تشبه لون السماء، تكبر أمامنا، ونحن نعشقها أكثر، فأكثر، ذهبنا في يوم لشراء ملابس العيد، وضحكنا حتى دمعت أعيننا، ولكن حدث ما لم أتوقعه، كنا قريبين من دار المسنين والعجزة، بالمرج بمحافظة القاهرة، وفجأة اصطدمنا بعربية، ووقعنا على الأرض من شدة الصدمة، وأسعفنا المسعفون، وانقضى الأمر، وحينما ذهبنا للبيت، لم أجد زوجي، لا نعلم عنه شيء، ولا نعرف ماذا حدث؟
شعرت ابنتي دائمًا بالتعب والاعياء على مدار يومين، قررنا الذهاب للطبيب للاطمئنان، قال الطبيب: أصيبت نادية بالسرطان في المخ، وجدتُ نفسي أصرخ بحرقة، وأبكي بكاء الطفل الغريق، ذهبنا، ونحن في طريقنا للمنزل، عادت بي ابنتي إلى المكان الذي حدث فيه الحادث لنا.
وبالتحديد عند دار المسنين، أخبرتها لما جئنا هنا، لم تُجب، أمسكت يدي، سجلت اسمي في الدار، وقالت لي: سيكون هذا بيتك بعدي، صرختُ بوجهها كفى، فلنذهب لبيتنا، وذهبنا، ولكن في اليوم التالي، وجدتُ نفسي في مكان غير مكاني، وبيت غير بيتي، انطلقت مسرعة للباب، وصرخت بأعلى قوة، افتحوا، فتحت لي عاملة تكنس الأرض، قلت لها: من أحضرني هنا، أخرجيني، قالت: ابنتك نادية، قلت: كلا إنك كاذبة.
أعطتني ورقة، ثم أغلقت الباب، ورحلت، فتحت الورقة وجدتُ مكتوبًا عليها(لن تتحملي ضعفي، ومرضي سيكون عبئّا، ليس لديك غيري، وإذا متُ ستتوجعين، لذلك سأنهي كل هذا الآن، لن أتألم، أنا ولا أنتِ، سأذهب للجنة، وأنتِ هذا بيتك بعدي، لم أتركك هنا لعذابك، بل لأنني أخاف عليك من ذئاب الدنيا، سأشتاق لك، أحبك أمي، انتظرك في الجنة)
لم أقرأ الكلام بلساني، بل بقلبي، ودموعي التي أخفيتها منذ ذاك اليوم، إلى وقتها، سلامى لك أيتها السيدة، وسلامي لك نادية، هنيئًا لكم ستلتقون….
النهاية
