
بقلم / محمد على الأخرس
“قراقوش” اسم تردد على ألسنة المصريين منذ ما يقارب من ألف عام و هو اسم يطلق كنايةً عن الظلم في التاريخ العربي فقالوا ( حُكم قراقوش ) وقد نُسبت هذه العبارة إلى الأمير بهاء الدين قراقوش، وقليل من المؤرخين الذين اهتموا برفع الظلم عن هذا الرجل، الذي يعد أحد كبار المهندسين والبنائين في تاريخ الإسلام، والغريب أن كل ما تردد من تراث مغلوط و سمعة سيئة نعتت قراقوش بالظلم والاستبداد سببها كتاب وضعه أحد الموتورين من منافسي قراقوش وخصومه الحاقدين في عصره وهو ابن مماتي، الذي كتب عنه كتاب: (الفاشوش في معرفة أخبار قراقوش)، وقد ملأه بالادعاءات الظالمة التي نسبها إلى الأمير قراقوش، وقد وصفه بالغفلة والحماقة والبطش والاستبداد، التي سرعان ما انتشرت على ألسنة العامة داخل و خارج مصر !!
“حكم قراقوش”، وتقال للشخص إذا كان صاحب سلطة ومَالَ إلى البغي والظلم، فتُقال للوزير والمدير وأحيانًا لرب الأسرة، على جانب آخر صوَّرت بعض المصادر قراقوش كمثال للسذاجة والبله، وحكيت عنه حكايات تشير إلى شخص أحمق وغبي ويثير الضحك.. والبعض يتصور أن قراقوش شخصيَّة لا وجود لها؛ لكن الحقيقة غير ذلك، لأن شخص قراقوش كان مثالًا للعدل، ومثالًا للعطاء بلا حدود.. وكان واحدًا من ثلاثة بَنَى عليهم صلاح الدين الأيوبي أركان حكمه.
قال عنه ابن إياس في (بدائع الزهور): “كان قراقوش القائم بأمور الملك، يسوس الرعية في أيامه أحسن سياسة، وأحبته الرعية ودعوا له بطول البقاء”.
وقال عنه ابن خلكان في (وفيات الأعيان): “كان حسن المقاصد، جميل النية، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين”.
أما ابن تغري بردي فقال عنه في (النجوم الزاهرة) عند ذكره صلاح الدين الأيوبي: “وكان وزيره بمصر الصاحب بهاء الدين قراقوش، صاحب الحارة المعروفة بسويقة الصاحب القديمة في الجامع الحاكمي، وكان رجلًا صالحًا غلب عليه الانقياد إلى الخير، وكان السلطان يعلم منه الفطنة والنباهة، وكان إذا سافر السلطان من مصر إلى الشام في زمان الربيع كما هي عادته كل سنة، يفوض إليه أمر البلاد، لكنه في سنة إحدى وستين وخمسمائة حكمها منفردًا من غير مشاركة؛ لوفاة ولي العهد المشارك له في ذلك، فلم يستقم له الحال، ووضعت عليه الحكايات المضحكة”.
والسؤال الآن: من هو قراقوش؟
وُلد قراقوش بآسيا الصغرى، وهو رومي النسب، خدم أسد الدين شيركوه القائد العسكري في جيش عماد الدين آل زنكي، ثم في جيش نور الدين محمود، وقد دخل قراقوش مصر في جيش أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، في تلك الفترة التي شهدت انهيار الدولة الفاطمية ونشوء الدولة الأيوبية.
وقراقوش هو (بهاء الدين بن عبد الله الأسدي) ، وسُمُّي بالأسدي نسبة إلى أسد الدين شيركوه قائده، ومعنى (قراقوش) بالتركية النسر الأسود، وكان قراقوش ضلعًا في مثلث ارتكزت عليه الدولة الأيوبية في مصر، الضلع الأول هو الفقيه عيسى المهكاري، والضلع الثاني هو القاضي الفاضل، والضلع الثالث هو القائد العسكري قراقوش .
و بينما كانت الدولة الفاطمية ذات صبغة مدنية، اهتمت بإنشاء الدواوين المتعدِّدة، فإن الدولة الأيوبية كانت ذات صبغة عسكرية ، ذلك لظروف مواجهتها لخطر الغزو الأوروبي متمثلًا في جيوش الفرنجة، لذا اهتمَّ صلاح الدين بالتجهيزات العسكرية من مدِّ الجسور، وبناء القلاع والحصون، وإنشاء الأسوار ، وهي مجالات كان لقراقوش باع طويل فيها، و عندما مات الخليفة الفاطمي العاضد كان صلاح الدين قد انتهى من قطع اسمه من الخطبة، وذكر اسم الخليفة العباسي بدلًا منه، وتولى صلاح الدين يوسف الأيوبي الحكم رسميًّا، وقد حوى القصر الفاطمي كنوزًا هائلة، خشي صلاح الدين عليها من النهب ، فاختار صلاح الدين – قراقوش متوليًا على القصر للحفاظ على خزائنه.
وقد تألق نجم قراقوش في ظلِّ قيادة صلاح الدين التاريخية وكان له دورًا هامًا في تلك الحقبة من التاريخ ، وكان لقراقوش أعمال عسكرية هامة يمكن تقسيمها إلى ثلاث نواحِ رئيسة :
1- إقامة قلعة الجبل( قلعة صلاح الدين الايوبي) فوق المقطم، التي ظلَّت مقرًّا للحكم في القاهرة حتى عهد محمد على إلى أن استبدل بها الخديو إسماعيل مقرًّا آخر للحكم. كما أتبعها ببناء قلعة المقسي، وهي برج كبير بناه قراقوش على النيل، وبنى بالقرب منه أبراجًا أخرى، على طراز الأبراج الفرنجية لا الفاطمية، التي وجدها أقوى وأكثر تقدُّمًا.
2- سور القاهرة: بعد الانتهاء من بناء القلعتين، قام قراقوش ببناء سور كبير يحيط بالجيزة ناحية الصحراء الغربية من أحجار الأهرامات، ثم بني سورًا يحيط بالقاهرة، وبناه من حجارة الأهرامات الصغيرة والمقطم، وحفر فيه بئرًا وضم مسجدًا، وهذا السور هو السور الثالث الذي أحاط بالقاهرة بعد سور جوهر الصقلي مؤسس القاهرة، وسور بدر الدين الجمالي الوزير الفاطمي، وكان السوران من اللَّبِن وليس من الحجارة .
3- سور عكا: استردَّ صلاح الدين عكا بعد بيت المقدس من أيدي الفرنجة، وتهدَّم سور المدينة من الحصار، وترك لقراقوش مهمة إعادة بناء السور المتهدم، ومضى ليحرِّر الحصون الأخرى من الفرنجة، وعكف قراقوش على عمله بجد وشغف وبعزيمة ومضاء، وهو يدرك أهمية هذا العمل في تحرير الأرض العربية من أيدي المغتصبين، ولكن الفرنجة في محاولة يائسة، قرروا لمَّ شتاتهم في المنطقة والقيام بعملية التفاف حول قوات المسلمين، وحاصروا عكا حتى يشتتوا تركيز صلاح الدين، واستمر الحصار عامين، وقراقوش يقود المقاومة والصمود داخل المدينة المحاصرة، حتى غلبهم الجوع والوباء وإمدادات الفرنجة التي أتت من البحر، لتقع عكا في أيديهم، ويقع من فيها أسرى و قتلى وجرحى، و أُسِرَ قراقوش نفسه حتى أُفرج عنه في الصلح عام 1192م.
بعد وفاة صلاح الدين، عمل قراقوش في خدمة العزيز ، وقد أحبط مؤامرة العادل لخلع العزيز بالله بالاتفاق مع قائد أكبر قوات العزيز، وهو حسام الدين أبو الهيجاء السمين زعيم الأسدية الذي انسحب بقواته من الشام وكشف ظهر العزيز بالله، ولكن قراقوش أحبط محاولة الانقلاب على العزيز بالقاهرة .
وبعد وفاة العزيز تولَّى المنصور وسنه تسع سنوات، أصبح قراقوش وصيًّا على العرش، وعندما انقسم الصلاحية والأسدية، واستعانوا بالملك الأفضل عم المنصور، تنازل قراقوش له عن الوصاية ،و لكن مؤامرات العادل استمرت، وظلت أطماعه في الشام صوب عرش القاهرة ، وعزم على الإغارة على القاهرة، فلما تبين الأفضل أطماع عمه العادل، جمع قواده وعرض عليهم الأمر، فقال له الأمير بهاء الدين قراقوش في تصميم : “لا تخف يا مولاي، فنحن جندك وجند أبيك من قبلك، مُرني أحفظ لك قلعة الجبل، ثم مُرني أحفر لك ما بقي من سور البلد، ثم مُرني أتعمق الحفر، حتى أصل إلى الصخر، وأن أجعل التراب على حافة الحفر، فيبدو كأنه حائط آخر، ودعني أفعل ذلك فيما بين البحر وقلعة المقسي، وبذلك لا يبقى لمصر طريق إلا من بابها الذي يصعب أن يفتحه العدو”. ولكن العادل استولى على مصر، وفر الأفضل من وجهه إلى الشام، وخلع العادل المنصور ونصب نفسه واليًا، وخُطب له.
تواري قراقوش في الظل حتى وافته المنية عام 1200م بعد حياة حافلة بالعطاء والإخلاص … و الآن و بعد ان عرفنا تاريخ قراقوش الذي ظلمه البعض ، بادعاءات كاذبة فلا نملك إلا ان نقول رحم الله الأمير بهاء الدين قراقوش.