قصص

وسط البلد

بقلم / ميَّ قاسم

<<وَسط البلد >> هذا ما نطلقه نحن المصريون على هذا الجزء من المدينة.
***
مشهد (١).
أستيقظت هذا الصباح غائمة، معبئةً بالحكايات كغيوم السموات، كنت على أتم استعداد أن أقص حكايتي كاملة على أول عجوز أقابله في طريقي، طريقي إلى أين؟ لستُ أدري.
***
مشهد (٢).
أنا حزينة.

جربي تروحي قهوة البورصة وهتتبسطي.

إيه قهوة البورصة دي؟

متعرفيهاش فعلا!

وأول مرة أسمع عنها، هي فين؟

في المنشية، روحي هناك وأسألي هي فين، دي من الأثار عمرها زي الأهرامات بالظبط .

تذكرتُ هذه المحادثة التي مرّ عليها عدة شهور، وتذكرت أني حتى الآن لا أعلم أين هذه القهوة وما سرّها وما السبب في أنها قد تجعلني سعيدو!
***
مشهد(٣).
يعني إيه”؟

تنهدت الطبيبة .. وقالت :
بصي، البخلاء كتير، مش بس بخلاء في الصرف والماديات، لاء، في بخلاء “مشاعر” ودول كمان أكثر من بخلاء الماديات والفلوس. في ناس مبتعرفش تحب روحها، وبالتبعية مبيعرفوش يحبوا اللي بيحبوهم، ممكن يستغربوا جدا لو اتعاملوا مع ناس طاقتهم العاطفية كبيرة، ويحصل لهم صدمة كمان وارتباك، تلاقيه بيفكر ازاي الشخص ده بيحب بالطريقة دي؟ ازاي قادر يستمتع بالتفاصيل الصغيرة كده؟ وازاي بيحبني بالشكل ده؟ هو مش قادر يحب نفسه فمش هيقدر يتفهم حبك ليه بالأساس!.

نظرت إليَّ بعين الشفقه، كمن يقف في شارع عمومي يتأمل حادثة طريق لم يكن أي من ضحياها على استعداد لمواجهة المجهول..

ثم تابعت :
<<الشخص البخيل في مشاعره ميقدرش يبذل في سبيل اللي قدامه حاجة، ميقدرش يشجع، ميقدرش يدعم، ميقدرش يحسسك بالاحتواء، ودي مشكلته مش مشكلتك، النوع ده من الأشخاص مشكلتهم مع نفسهم مش مع اللي قدامهم، وفي كثير من الأوقات مبيقدروش يعبروا عن نفسهم ولا يتكلموا عن الجواهم، وده بيخليهم ماشيين وسطينا زي المريض الميبانش عليه أعراض، ممكن يعديك وأنت مش متخيل تماما أنه هو ده السبب في حزنك وتعاستك. فهمتي؟ >>.

لم أعلم حينها أي جزء بالتحديد تقصده ب “فهمتي” هذه،

الحكاية أو ما وراءها،
فرددتُ :
“فهمت”.

مشهد(٤).
تذكرتُ هذه الجلسة مع الطبيبة التي مرّ عليها بضعة أسابيع باتت كأنها دهور وأنا في الترام ذاهبة إلى محطة الرمل، لإستكشاف هذا المكان الذي كان قد أخبرني عنه، وعدت للواقع كأني أستفيق من خيالي، الفارق بين الخيال و الحلم أن الحلم مهما طالت مدته فهو قصير، الفارق الزمني بين الوقت الحقيقي والوقت في الحلم كبير، ساعة كاملة في الواقع هي بمثابة خمسة دقائق فقط في الحلم. أما في الخيال فالوقت يتمدد لا ينكمش، ساعة واحدة في الوقت قد تتمدد لتصبح ذكريات عام كامل مع الخيال.

نزلت إلى المحطة و مشيت على الرصيف أتأمل باعة الكُتب والمارّة، كل الوجوه تبدو مألوفة حين تتفقدهم واحدًا تلو الآخر باحثًا عن شخص بعينه .
سئلت عن القهوة فعرفت الطريق، ومشيت أشاهد البيوت القديمة محاولة تخيلها بعد تشييدها مباشرة، قبل أن تطأها الأقدام وتلوثها الحكايات، وأُسقط تخيلي على نفسي وأحاول أن أتذكر كيف كان قلبي نقيًا قبل أن يلوثه الخذلان وتجعل منه الذكريات ملجئًا.

أكثر من مرة عاتبتك .. واديت لك وقت .. واديت لك وقت تفكر .. آه .. آه .. آآه .. كان قلبي كبير .. بيسامحك . إنما كان غدرك أكبر .

كان الصوت ينبعث من مذياع القهوة، ألقيت نظرة وتأملت المكان من على مسافة آمنة، يليتني حافظت على هذه المسافة الآمنة حينها.

وخطوت خطوات بطيئة متثاقلة اتجاه الباب، أراجع نفسي، هل عليَّ العودة؟

سحبتُ كرسيًا وجلست .
ورحت أتأمل من حولي مرة أخرى .. لاحظت شذوذي .. فتاة بمفردها وسط أجساد ضخمة تدخن بشراهة غير عابئة بالعالم أجمع ..

فقررت الإنسحاب، و كنت على وشك أن أركض عائدة، حين سحب كرسيًا وجلس.

متخافيش، محدش هيعملك حاجة.

عجوز خمسيني، أسمر اللون بعينين عسليتين و لحية بيضاء، وبضعة شعيرات خفيفة على الرأس ..

مش خايفة، بس أصلي أتأخرت على معادي ولازم أمشي .

محدش بيجي القهوة هنا وهو وراه مواعيد، الكل بيجي علشان يشغل وقته ويونس روحه من قلة الخَلق والمواعيد .

ها، قهوة ولا شاي؟

شجعتني ابتسامته على الإبتسام أنا أيضًا، وطلبت كوبا من الشاي بالنعناع.

وجلست أسمع أم كلثوم و أراقب من حولي بفضول، وأحفظ تفاصيل المكان وأحاول جاهدة أن أعلم ما الذي يمكن أن يُوجد في هذا المكان القديم قد يبعث فيَّ أنا البائسة الفرح؟

بتحبيها ؟

السِت ؟

لاء، إسكندرية.

معرفش، يعني، مفكرتش قبل كده .

واشمعنى الخطر على بالك الأول إني بسأل عن السِت؟

الأفلام، كل اللي يقعدوا على القهوة بيحكوا عن الست، فتوقعت انك تسألني عنها .

طب والسِت؟

مفيش حد في الدنيا بيغني زي السِت، هي جات عملت قيمة للغنا ومشيت، وسابت كل الوراها صفر ع الشمال .

“الله الله! طب وعبد الوهاب؟ وفريد؟ وعبد الحليم ونجاة؟ ده أنت جريئة أوي في قولتك دي يا آنسة”.

مش جرأة.
هقولك،
أصل أم كلثوم مكنش عظمتها في صوتها، جايز في أصوات كثير أقوى وأحسن منها.
لكن هي كانت منفردة بالإحساس، بالمشاعر، كانت كريمة أوي في مشاعرها، بتعرف إمتى تقول إيه وازاي، ازاي .. الطريقة يا عمنا .
الطريقة أهم من القول ذات نفسه.

وهي؟ مكنش في زيها في كرم مشاعرها وطريقة توصيلها للمشاعر دي للي بيسمعها.

تنهدت وتذكرت حديث الطبيبة وأكملت، و فكرتُ؛ هل لذلك أخبرني أن أتي إلى هنا؟ لوجود عواجيز طيبين أو لتفاصيل البيوت القديمة أو لصوت أم كلثوم؟ هل كان عليَّ أن أقطع كل هذه المسافة لأفهم أنه كان يقصد أن هذا المكان به بعض الونس؟ لماذا يكون من الصعب جدًا نسيان أحاديثه؟

نظرت إليه.. وأكملت :
“في ناس بخلاء في مشاعرهم، مبيعرفوش يرسموا على ملامحهم الكلام اللي بيقولوه، فالكلام بيخرج منهم جامد .. وقاسي .. وجاف ..
مبيعرفوش يعملوا الخلطة السحرية بتاعة تليين الكلام المنطقي بالمشاعر .. أم كلثوم كانت غير .. كانت واضحة وصريحة ومشبعة بالمشاعر .. تيجي قصيدة حُب تسمعها بصوتها فتحس إنك أنت البتحب .. تحكي عن الفراق فالجرح يوجعك .. كأنه لسه امبارح مع إنه مرّ عليه سنين .. تتنهد وتقول :وجعتي قلبي يا سِت. .. كان عندها طولة بال .. مليانة شغف .. تقف على خشبة المسرح فتقول كوبليه، يقولوها عيدي! فتعيد. تخلص فيقولوا زيدي! فتتنهد .. وتزيدهم.
كانت كريمة في مشاعرها .. لو كانت عاشرت بخلاء المشاعر زيي كان جايز تفهم قصدي. “

طب أشربي الشاي علشان تلحقي معادك.

ابتسمت، فلقيته بيغني ويقول :
أنساك؟ يا سلام. أنساك؟ ده كلام.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!