مقالات

أين مجلس الأمن من خطة ترامب لغزة .. ولماذا تُترك الساحة بالكامل لـ واشنطن وتل أبيب؟

✍️ يوحنا عزمي

يبدو المشهد اليوم وكأن العالم يقف أمام مفارقة عجيبة : خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في غزة تُنتزع موافقة ساحقة داخل مجلس الأمن الدولي ، ومع ذلك لا يظهر أي أثر للدور الطبيعي والمنطقي الذي يفترض أن يضطلع به هذا المجلس في تحويل الخطة من وثيقة سياسية إلى واقع قابل للتنفيذ.

فمن المفترض ، وبمجرد أن مُنحت الخطة هذا الغطاء الدولي الرفيع ، أن يتحرك المجلس بخطوات واضحة نحو اقتراح آليات التنفيذ، خصوصاً ما يتعلق بالمرحلة الثانية من مراحل الخطة ، وهي المرحلة الأكثر حساسية وتعقيداً ، لأنها تتصل مباشرة بتشكيل قوة الاستقرار الدولية متعددة الجنسيات، وبصلاحيات هذه القوة ، وبالحدود الدقيقة لمهماتها.

فهل ستتولى هذه القوة نزع السلاح من غزة وإعادة صياغة المشهد الأمني بالكامل، أم أنها ستكتفي بإدارة الأمن والنظام دون الدخول في جوهر البنية العسكرية داخل القطاع؟ هذا السؤال وحده كفيل بأن يوضح حجم الفراغ الذي يتركه المجلس رغم أنه هو الجهة الوحيدة المخولة دولياً بتحديد مثل هذه المهام.

ثم يأتي الدور الأخطر الذي يثير الكثير من علامات الاستفهام: المجلس الرئاسي الأعلى الذي ستدار من خلاله غزة خلال المرحلة الانتقالية ؛ ذلك الهيكل الذي تنص الخطة على أن يترأسه الرئيس ترامب نفسه ، بينما تبقى بقية المقاعد شاغرة تنتظر شخصيات دولية ذات نزاهة وسمعة فوق مستوى الشبهات.

أليس من المنتظر أن يشرف مجلس الأمن على صياغة هذا المجلس واختيار أعضائه أو على الأقل اعتمادهم لضمان أن تكون الإدارة الانتقالية محايدة وعادلة وغير خاضعة لأمزجة طرف واحد؟ وإن لم يكن مجلس الأمن هو الذي يحدد هذه الأسماء أو يعترض عليها ، فمن إذن سيضمن ألا يتحول هذا المجلس الانتقالي إلى مجرد امتداد للإرادة الأميركية وحدها؟

وتمتد الأسئلة إلى أبعد من ذلك ، إلى صميم الواقع الإنساني داخل غزة. فرفع الحصار الإسرائيلي غير الإنساني عن القطاع ليس مجرد بند عابر في الخطة ، بل هو استحقاق أساسي لا يمكن تجاهله. ومن المفترض أن يكون لمجلس الأمن اليد العليا في فتح المعابر المغلقة وفرض تدفق المساعدات ، وأن تكون له سلطة توقيع عقوبات دولية على إسرائيل إذا امتنعت عن التطبيق أو حاولت الالتفاف كما اعتادت. كيف يُعقل أن يُترك هذا الأمر لمفاوضات جانبية بينما الخطة تحمل ختم مجلس الأمن نفسه؟

وكيف يُفهم أن الانسحاب الإسرائيلي من المواقع العسكرية الذي يفترض أن يتم بالتزامن مع تنفيذ بنود الخطة، يُترك لإرادة إسرائيل وحدها في تقرير توقيته وشكله؟ هل يعقل أن يُمنح طرفٌ مشارك في الصراع حرية تحديد متى وكيف ينسحب بينما الخطة يتم تقديمها للعالم باعتبارها إطاراً دولياً ملزماً؟

ولا يقف الأمر عند ذلك ، فإعادة إعمار غزة هي المعركة الأهم بعد وقف إطلاق النار، ومع ذلك تظل معدات الإعمار رهينة المزاج الإسرائيلي ، تُسمح بدخول بعضها وتُمنع أخرى، دون أن نرى أي تدخل حقيقي من مجلس الأمن لوقف هذا التعطيل المتعمد. بل هناك ما هو أخطر : التهجير القسري الذي تحاول إسرائيل فرضه على سكان غزة وتعتبره هدفها الاستراتيجي منذ اليوم الأول للحرب. ألا يفترض أن يكون مجلس الأمن هو الجهة التي تضع الخط الأحمر لهذا المخطط وتوقفه، طالما أن الخطة التي وافق عليها نصت بوضوح على بقاء السكان وعدم المساس بوجودهم؟

كل هذه الملفات هي في صميم مسؤوليات مجلس الأمن الدولية ، وهي من صلب تفويضه الأساسي قبل أن تكون مسؤولية الولايات المتحدة وحدها. وإذا كانت واشنطن تعتبر نفسها صاحبة القرار الحاسم ، فما جدوى أن تُحيل الخطة إلى مجلس الأمن للحصول على الموافقة الدولية؟

وما معنى أن تتحول إلى “خطة دولية” إذا لم تمارس المؤسسات الدولية أي دور في تنفيذها؟ هنا يظهر الغياب المؤلم لدولنا وحكوماتنا التي تركت الساحة فارغة أمام الأميركيين والإسرائيليين ، دون أن تسمع من العالم صوتاً عربياً واضحاً وحازماً يطالب المجلس بواجباته ، ويصر على أن يتحمل مسؤوليته كاملة.

إن المطالبة بدور فعلي لمجلس الأمن ليست رفضاً للخطة، بل هي محاولة لوضع الأمور في مكانها الصحيح، ولتحويل الخطة من ورقة سياسية إلى واقع يحمي غزة وسكانها ، ويحفظ لهم حقوقهم ، ويضع حداً لعبث الأطراف التي اعتادت أن تتعامل مع القرارات الدولية باعتبارها مجرد توصيات يمكن تجاوزها متى شاءت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!