مقالات

حين يتحول البرلمان إلى تهديد للدولة : حكاية دستور معطوب ومال فاسد يبتلع مصر

✍️ يوحنا عزمي

عندما ننظر إلى المشهد المرتبط بانتخابات البرلمان في  مصر ، لا يمكن إلا أن نشعر بأننا أمام مشهد عبثي كامل الأركان ، أقرب إلى مهزلة سياسية أُريد لها أن تبدو ممارسة ديمقراطية ، لكنها في حقيقتها تكشف عمق الأزمة التي تعيشها الدولة. وإذا تأملنا الواقع المصري بصدق ، سنجد أنفسنا في مواجهة وضع بالغ الخطورة ، وضع لا يراه إلا من يقرأ ما خلف السطور ويتتبع مسار الأحداث التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة المشوهة.

فما لا يعرفه كثيرون أن الدستور الذي صاغه عمرو موسى منح البرلمان سلطات واسعة غير مسبوقة ، حتى باتت السلطة التشريعية تتفوق فعلياً على سلطة رئيس الجمهورية ، في سابقة لم تحدث في تاريخ مصر.

ومع هذه السلطة المتضخمة ، أصبح المواطن المصري ـ مضطراً لا مختاراً – أمام مجموعة محدودة من الخيارات عند انتخاب أعضاء البرلمان ، وكلها تقريباً خيارات فاسدة  أو متورطة أو مدعومة من جهات ذات مصالح مشبوهة.

اختيارات الناخب محصورة بين أصحاب رؤوس الأموال غير النظيفة ، أياً كان مصدرها ، سواء كانت أرباح تجارة محرمة ، أو ثروات ناتجة عن سرقة أراضي الدولة ونهب ممتلكاتها ، أو أموال ناتجة عن تهريب الآثار والاتجار بها، أو تمويلات ضخمة من شبكات اقتصادية تابعة لجماعة الإخوان التي فشلت الدولة حتى الآن في القضاء على نفوذها المالي. يضاف إلى ذلك طبقة من الفاسدين الذين صنعوا ثرواتهم بالاحتيال والرشوة والاستغلال ، ثم أخطرهم جميعاً : أولئك الذين تقف خلفهم جهات استخباراتية خارجية مولت وجودهم داخل مصر عبر بوابة “اللاجئين”، تماماً كما تسلل الهكسوس قديماً إلى البلاد من باب الاستجارة وطلب الأمان ثم حولوا هذا اللجوء إلى إحتلال وهيمنة وسيطرة على شمال مصر.

ومع الأسف يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ، إذ تتكرر محاولات الاختراق مستغلين طيبة المصريين وثغرات الدولة ، بينما يقوم البعض بدعم مرشحين ليكونوا أذرعهم داخل البرلمان، بهدف تعطيل أي تشريعات تُقيد تمددهم أو تحمي الأمن القومي المصري ، بل وربما الدفع نحو إصدار قوانين تسهل حصول اللاجئين على الإقامة ، ثم الجنسية ، بما يفتح الباب لسيناريو بالغ الخطورة على الهوية والدولة.

ومع استمرار هذا الوضع ، أصبح المال الفاسد هو السيد الأول في العملية الانتخابية ، فهو وحده القادر على دفع الرشاوى للأحزاب والوسطاء ولجان الاختيار ، وهو وحده الذي يملك تمويل الحملات الدعائية وشراء الأصوات، بينما المواطن الشريف – إن امتلك مالاً – لا يمكن أن يلوث نفسه عبر دفعه في فساد انتخابي ، وبالتأكيد لا يملك القدرة على منافسة تلك الأرقام الخيالية التي ينفقها أصحاب المصالح.

وقد جاءت تدخلات رئيس الجمهورية في هذا السياق كإنذار علني، حين عبر عن غضبه مما تشهده الانتخابات، الأمر الذي أجبر اللجنة العليا للانتخابات على التحرك ولو بشكل شكلي، فأعادت الانتخابات في بعض الدوائر محاولة امتصاص الغضب الشعبي وتهدئة الرئيس. لكن هذا التدخل فضح أكثر مما أصلح ، وأظهر أننا أمام لجنة تعمل وكأنها في عالم منفصل عن الواقع ، غير مدركة ما يحدث ولا حجم الغضب الشعبي المكتوم.

ومع هذا كله، يبقى السؤال الأهم : هل ينفق أصحاب المال الفاسد ملايينهم لخدمة الوطن؟ أم لخدمة أنفسهم واستعادة ما أنفقوه مضاعفاً عبر الحصانة والمزايا الواسعة التي يمنحها لهم البرلمان؟

الحقيقة التي يلمسها الجميع أن البرلمان ـ بفضل الدستور الحالي ـ بات يتمتع بسلطات تفوق سلطة الرئيس نفسه، وهذا بحد ذاته يشكل تهديداً خطيراً يغفل عنه كثير من المصريين.

ورغم أن الأمل كان معقوداً على نسبة التعيينات التي يقوم بها رئيس الجمهورية للمجلس ، إلا أن هذا الأمل تلقي ضربة موجعة عندما تم اختيار ممثل لا يمتلك أي مؤهلات سياسية أو تشريعية ، سوى أنه جسّد الرئيس في عمل درامي ، ثم خرج في لقاء عام ليطلق تصريحات تاريخية مضحكة ومهينة عن دور الجزائر في حرب 1967، بما كشف جهله ونفاقه، ومع ذلك لم يتحرك أحد لتصحيح الخطأ أو محاسبة المتسبب به ، لا الرئيس علق ، ولا مجلس الشيوخ تحرك ، وكأن الأمر لا يعني أحداً.

تلك اللحظة وحدها كانت كافية لتأكيد أن المصريين لم يعودوا يثقون في أن لديهم برلماناً محترماً ، وأن ما يجري ليس إلا مسرحية هزلية تُنفق فيها أموال هائلة من خزينة دولة يعاني شعبها من أزمات اقتصادية خانقة.

فالدولة التي تنجح بامتياز في الملفات السياسية الخارجية، تفشل بعنف في الملفات الداخلية كافة : ملف اللاجئين الأجانب وما يمثله من خطر داهم على الأمن القومي، وملف الاقتصاد الذي يرهق ملايين الأسر ، وملف القوة الناعمة الذي يتراجع بوتيرة تثير القلق ، وملف التعليم الذي أصبح مجرد عنوان كبير لواقع خاوٍ لا يقدم تربية ولا تعليم، وملف العلاج الذي أصبح عبئاً فوق طاقة الناس حتى بات المرض يهدد استقرار العائلات ويصنع غضباً قادراً على إشعال دولة بأكملها.

يضاف إلى ذلك أزمة السكن التي تهدد المواطنين بالفقر والتشرد ، وأزمة تفاوت الطبقات الذي أعاد مصر إلى ما يشبه مجتمع ما قبل ثورة يوليو ، حيث تتركز الثروة والسلطة في يد أقلية صغيرة بينما يعاني أغلب الشعب، منهم نسبة كبيرة تعاني معاناة حقيقية تهدد الأمن الاجتماعي والاستقرار.

ورغم أن الرئيس يُحاسب على كل ما يحدث في الدولة، إلا أن الواقع يقول إنه لا يملك السلطة الكافية لإجراء إصلاحات جذرية بسبب القيود التي فرضها دستور عمرو موسى، الذي جعل البرلمان أقوى من مؤسسة الرئاسة نفسها.

وربما لم نشعر بكوارث هذا الدستور بشكل كامل لأن الرئيس السيسي تجنب الصدام المباشر مع البرلمان ، ولأن الجميع يعرف أن للرئيس شعبية وقوة ردع تستند إلى دعم القوات المسلحة ومؤسسات الدولة، لكن هذا الوضع لا يمكن ضمان استمراره بعد انتهاء ولاية الرئيس.

وهنا يصبح السؤال المخيف : ماذا سيحدث بعد السيسي؟ وما الذي يمنع المال الفاسد من السيطرة الكاملة حين يختفي الرادع الوحيد الذي يحول دون ذلك؟

إن استمرار هذا الدستور ، واستمرار تغلغل المال الفاسد في العملية التشريعية ، يشكلان تهديداً مباشراً للأمن القومي واستقرار الدولة. ولا حل لإنقاذ مصر إلا بإلغاء هذا الدستور ووضع دستور جديد يعيد السلطة التنفيذية إلى موقعها الطبيعي ، ويقصر حصانة أعضاء البرلمان على ما يحدث داخل الجلسات فقط، ويلغي المزايا التي تُمنح لهم بلا وجه حق، ويضع شروطاً وطنية صارمة للترشح، أسوة بما يحدث في الكليات العسكرية، لضمان عدم تسلل الغرباء أو أصحاب الولاءات المشبوهة إلى مؤسسة تشريعية بهذا الحجم.

كما يجب إنهاء حالة الفصل المطلق بين السلطات حين تتحول المؤسسات إلى “دول موازية” أقوى من الدولة نفسها، وأن يخضع الجميع لضوابط تحمي مصر ولا تسمح لأي مؤسسة بتجاوز خطها الوظيفي.

إن إصلاح هذا الوضع ضرورة وطنية لحماية مصر من الانهيار ، وضمان وجود برلمان وطني يعمل لصالح الدولة وشعبها لا لصالح جيوب من يصعدون إليه بالمال الفاسد. قد يبدو الطريق طويلاً وشاقاً، لكن البديل أخطر بكثير، والخطر يقترب كلما تأخر الإصلاح الحقيقي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!