همسه

الفقد

بقلم: سُلافة محمود

ذلك الإحساس الموحش الذي يسيطر علينا عندما تختفي الأشياء والأشخاص من أمام أعيننا، نفقد وجودهم المادي لكن القلب يظل يتذكرهم بكل تفاصيلهم الصغيرة، والعقل لايَكُف عن سيل الذكريات التي جمعتنا بهم، أتذكر أن هناك آية قرآنية تقول ” وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا” في أسمى معاني الحزن يوضح الله العظيم مدى قسوة ألم الفقد، وهو فراغ القلب من معنى الجمال والإحساس به، أمّ نبي الله موسى كانت تعرف أنه سينجو، تعرف أن الله معه، ومع ذلك لم يخف قلقها وحزنها! هذا ليس عدم ثقة في الله حاشاها، لكنَّه مهما كان العقل مقتنعًا بشيء فيظل القلب له رأيّ آخر.

بعد اختفاء الأشخاص يتركون ورائهم إرثًا عظيمًا من المشاعر والذكريات، وتصبح كل كلمات المواساة في العالم قليلة أمام عظمة الشعور، لا أظن يومًا أنه يُوجد كلامُ يوضح مايشعر به المرء حقيقًة، فهول الإحساس أكبر من أي شيء.

الإحساس بأنك لن ترى هذا الشخص ثانيًة، لن تستطيع لمسه، لن تستطيع النظر إلى تفاصيل وجهه في الحديث إنه حقًا شيء مؤلم! وهذا مايُسببه الموت، مثل وفاة الأب، يظل مكانه خاليًا مهما مرت السنون وتبدلت الأحوال ويظل مكانه في قلوبنا فارغًا مهما تعددت الشخصيات الجميلة في حياتنا.

هذه الحادثة تترك أثرها فينا ماحيينا، نعتاد على عدم وجودهم لكن الإحساس بحبهم وذلك النوع من المشاعر التي لن تخرج لسواهم، تظل تطوف بقلوبنا، ومع كل موقف نتعرض له يستدعي وجودهم فيه تثور هذه المشاعر وتخرج من مكانها وكأنها تقول أنا أصبحت يتيمة، من كنت مِلكًا له قد مات، وهنا العقل يكون مطمئنًا فلا وجود لاحتمالات العودة لكن القلب يتمزق بمشاعره اليتيمة هذه.

أما ذلك النوع الآخر من الفقد، فَقد الأحياء يكون أصعب من فَقْد الموت، لأن القلب يكون له الفرصة في ترجيح اللقاء مرة أخرى، وهنا يتدخل العقل ويضع على الطاولة كل أوراقه الرابحة ودلائله المنطقية في عدم الرجوع وأن ما يرجوه القلب دربٌ من الجنون، لكن ذلك القلب كشخص مراهق، طائش يسير وفق مايشعر به، فيُشْعِر الإنسان بالأمل من أمرٍ كل الدلائل تقول بحتمية عدم حدوثه، فيدخل القلب والعقل في صراعهم الأبدي الذي يتصف الإنسان بسببه بأنه إنسان كئيب، ولا يعرف أحد عن الحرب الدائرة داخله شيئًا، وهنا يتشتت القلب بين احتمال حدوث المعجزة وتحقيق آماله أو الخذلان!.

وفي حالة الترقب والانتظار، هذه الصورة المختلفة للفَقد المُحتمل، مثل ترقب نتيجة تحاليل لمريض سرطان، انتظار نجاح عملية صعبة لشخص عزيز علينا، أو انتظار نتيجة تحاليل حمل لشخصان يريدان وبشدة طفلًا صغيرًا يكون زينة الحياة لهم.

نستطيع هنا أن نقول أن العقل والقلب الإثنان ولأول مرة يكونان في مهب الريح. كلمة تُحييهم وكلمة آخر تُميتَهم.

ما أصعب أن يواجه الشخص المجهول، لا يستطيع القلب أن يحدد ماهو الشعور الذي يجب أن يشعر به، وأي طريق يجب أن يسلكه العقل ليُفكر. فالإثنان يصبحان كطفلين على دروب التيه لايعرفون لهم وجهة يذهبون إليها، فهم قد فقدوا أهم شيء يبحث عنه الإنسان وهو الشعور بالأمان القلبي والاطمئنان العقلي!.

هنا الإنسان إما أن يفرح بشدة أو أن يحزن بشدة لا مجال لأي شعور آخر، هذا التناقض في المشاعر هو المميت في نظري.

الإنسان دائمًا في صراع مع الحياة، ومع نفسه في فلكه الداخلي الذي لايعرف أحد عنه شيئًا، والتي تعجز الكلمات عن التعبير عنه، ويظل الإحساس أكبر من أن يُوصف وأعمق من أن يشعر به أحدٌ غيرك، فلكل منّا حياته المنفصلة تمامًا عن الآخرين، فلكل منّا عالمه الموازي، الذي يعيش فيه انكساراته وخيباته ويواجه فيه مخاوفه، فلا تدّعي انك تعرف أحدًا تمام المعرفة أو يُهيأ لك ذلك، فنحن كما قال دكتور مصطفى محمود” لو دخل كل منّا قلب الآخر لأشفق عليه”.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *