قصص

يونس| علامة حمراء

ناجي شاهين

تطلعت إليَّ وابتسامة بلهاء تزين ثغرها وقالت: لهذا أحب كرة القدم، فلاعبي إيطاليا اليوم سيضعون علامة حمراء على وجناتهم، لدعم حملات منع العنف ضد المرأة.

لم تكد تنهي كلماتها حتى انتابتني نوبة هستيرية من الضحك، صحبتها بضع دمعات على وجنتي، لا أدري أنزلت من فرط الضحك، أم من مرارة ما يجول بخاطري.

“العنف ضد النساء؟!، نحن معشر الرجال من يُمارس ضدنا التعسف والعنف والتفرقة في كل لحظة نعيشها، وفي كل نفس نجتره، وفي النهاية يجدر بنا أن نتظاهر بالقوة والصلابة، كأن ما يحدث لا يعنينا البتة، وإلا لا نصير رجالًا”.


بدى عليها أنها تستنكر كل حرف أنطق به، فلم يكن أمامي بد إلا أن أشرح لها ما أعنيه، والله وحده يعلم كم أكره الشرح، وخصوصًا لو أن تلميذي الوحيد هي.


وبدأت شرحي الطويل بإسلوبي المفضل، المثال أولًا.

“أتحبين الشطرنج؟”.

“نعم تلك اللعبة المرقطة مع أشكال الحيوانات عليها”.

“أنا هو الحيوان الحقيقي لاختياري لهذه اللعبة دونًا عن الألعاب الأخرى، ما علينا، فلنتظاهر بأننا نتابع حياة الشاب “يونس” من أعلى؛ لنحصي عدد الانتهاكات التي يتعرض لها في حياته، ما بين عنف وتمييز وحصار نفسي عليه من كل حدب وصوب”.

يونس” فتى حاصل على الكثير والكثير من الشهادات التي تؤكد لكل من يراها، أنه يونسًا بحق، وقد كُتب عليه أن يظل طوال حياته حبيسًا مكبلًا ببطن وطن – بين الأوطان – لا يفقه أبسط مفردات المساواة.

هل ترينه وهو يلملم أوراقه؟!، ويجمع شتات أمره للتقدم لوظيفة الأحلام، فأخيرًا وجد العمل المناسب، عمل يتناسب مع كم الشهادات التي يمتلكها والخبرات الكبيرة – بالنسبة لحديث التخرج مثله.


وها هو يقف أمام لجنة من الوحوش – التي تسمى زورًا بالموارد البشرية – لتجهض أحلامه وتُعنف طموحاته وتُعجز خبراته، فيطلبون منه سبعين عامًا من الخبرة وشهادتين ممضيتين من كل موظفي الدولة وكل من يتشدد لهم، وشهادة صحية وغير صحية، ويشترط إجادة مائة وسبعين لغة، حية وميتة، والتحدث بلغة الثعابين تمامًا “كهاري بوتر” وباقي رواد مدرسة “سليذرين” ، ويشترط الخدمة العسكرية، وأن تحارب وتستشهد في معركة الاستنزاف مرتين على الأقل، وبالنهاية ستحصل الفتاة الهيفاء حسنة المظهر على الوظيفة، لأنها حضرت “كورسًا” على الإنترنت – أونلاين – عن كيفية إنقاذ الباندا من الاختناق بعلكة “الترايدنت”، فلا يجد المسكين “كورسًا” واحدًا ينتشله من خيبته سوى “كورس” المعسل على قهوة غير آدمية في شارع من حواري تحت الأرض، ويصب جام غضبه على “القهوجي” – الغبي – الذى أحضر له قهوة سادة، بدلا من المضبوطة.

فيُسمع “القهوجي” بعض من السباب غير الوارد في أيٍ من قواميس الشتائم في نطاق التسع مجرات – وذلك لو احتسبنا بلوتو – ذلك “القهوجي” المسكين، والذي بدوره تمارس معه الحياة نوعًا آخرًا من التعسف، فبعد حصوله على الماجستير في التربية، يضطر آسفًا للعمل “كقهوجي” لأن وببساطة مرتب المعلم لا يكفيه وأطفاله، بالإضافة لتكاليف تحضير رسالة الدكتوراة، هل أخطأ بزواجه المبكر – لو فرضنا أن سن السابعة والعشرين مبكرًا – أم أخطأ في طموحه الزائد؟.

ونعود ليونس المسكين الذي يتعرض للإيذاء من كل من هم حوله، لمجرد أنه “محترم” لا يؤذي أحد.

توقف هنا، ألا تلاحظ أن من يؤذي “يونس” ما هو إلا يونسٌ آخر؟!، بمعنى أن السبب في العنف ضد الرجل هو الرجل نفسه، وأظن أن هذا لا يحتسب، أنا لم أضع القواعد، ولكن لا يحتسب ما قلته عنفًا أو تمييزًا إلا إذا تم من الجنس الآخر، أليس كذلك؟، وإلا فلنطلق عليه اسم “التنمر”.

ويحك، إني لم أكمل شكوى “يونس”؛ فما قلته مجرد إحماء، وما مر مجرد رفاهية، مقارنتًا بما سيجابه يونسنا في المستقبل.

تنقل “يونس” بين أعمال لا تمت لشهاداته بصله، فإذا تنقلت في المحلات ستجده “كاشير” وربما عامل نظافة، وإذا دققت النظر ستجده في شوارع “العتبة” يبيع الملابس، وإذا كنت أحد البيتوتيين الذين لا يخرجون من جحورهم، ستجده يوصل لك الطعام إلى المنزل، فقد عمل أيضًا في توصيل الطعام إلى المنازل، لا تنسى قبل أن تشفق عليه أن تمنحه “بقشيشًا” فقد تعرض للخصم من راتبه بسبب التأخير الذي ليس له يد به، وإذا كنت من هواة المعمار والبناء، ستجده بين العمال، يحمل لوحًا خشبيًا على كتفه، وربما بعض معدات البناء، عمل في كل شيء تقريبًا، وزار كل وظيفة اللهم إلا الوظيفة الوحيدة التي يصلح لها، تنقل في الأعمال وتحمل قسوة المديرين والناس لا لشيء، إلا أنه رجل، لا يملك رفاهية الشكوى ولا يملك رفاهية الاختيار، فلم يجلس والده إلى جانبه الأيسر، ووالدته إلى يمينه يخيرانه بين البحث عن الذات في التعليم والعمل، أم “التستت” في المنزل – وهي كلمة مشتقة من الست أي المرأة وكأنها خيار لا يحق إلا للنساء – إنتظارًا لابن الحلال – والذي هو في الأغلب “يونسًا” آخر – أضاع زهرة شبابه وسنوات عمره هباءً، فقط ليحصل على حقٍ مشروع له.


وتستمر الانتهاكات تطرق باب “يونسًا” وكأنها لا تعرف إلا ظهره هو لتعتليه، إلى أن يقرر أخيرًا العمل في تلك الوظيفة، التي رفضها مسبقًا لأنها أقل بكثير من امكانياته، فعلى الأقل هي قريبة من مجال تخصصه، فيجد نفسه وجهًا لوجه أمام تلك “الحسناء” التي سلبته وظيفة أحلامه، وقد أصبحت مديرته فلا سبيل له إلا أن يُخضع لها الرأس، فيتمنى لو يضرب رأسه في الحائط ألف مرة، فتتناثر شظايا جمجته على الأرض وعلى الجدران، أو أن يمد يده داخل فمه ممسكًا بقلبه، فيخرجه من مكمنه معلقًا من شرايينه، كأنه لص تكبله السلاسل من كل جانب، كم تمنى لو أنه لم يكن إلا فتاة حسناء!.

كم “يونس” قابلتِ ،وكم ستقابلين!.
ما يجبر “يونس” على تحمل ما يمر به من حروب هو وجود “خطيبته” في حياته، لا تستعجلي بالرد، ليس حبها من يمده بالقوة، بل خوفه منها، خوفه من كل شيء يتعلق بها، بدءًا من ماتش “الكلاسيكو” الذي ينتظره من شهرين تقريبًا، ويتمنى ألا تسأله سؤالها التقليدي في كل مرة تسمع بها كلمة “كرة قدم” وهو “أنا ولا الماتش يا يونس”، فيجيب المسكين والدمع يكاد يفجر عيناه راكضًا كما السيل: لا أنتِ طبعًا يا حبيبتي.
ينطقها لسانه ولا يعنيها قلبه، أما “رونالدو” بداخله فيستنكر الجملة من الأساس ويصيح قائلًا: تشجع مرة أيها الأحمق!.
مرورًا بتواريخ أعياد من نسج خيالها هي فقط، مثل المرة الأولى التي رأيا فيها دبًا أرجوانيًا يلعب الغميضة مع بطة، ووحده الله يعلم أن “يونس” لم يكن منتبهًا، بل كان ينظر إلى يمينه ويساره قبل أن يعبر الطريق، فتلك كانت أول نصيحة تعلمها في حياته، وهي كل ما يشغل باله عند عبور الطريق، فهو لا يريد أن تصدمه سيارة مسرعة فتوبخه والدته!.
نهاية إلى استعجالها المستمر وإزعاجها المتواصل بشأن إتمام الزواج، وكأن المسكين هو من يعطل كل شيء.
وبعد كل ما مر به المسكين من صعاب وحروب، أنهى مرحلة الخطوبة وأتم الزواج.

الزواج هو سور ظاهِرهُ السعادة والراحة و “الهشك” و “البشك” وباطِنهُ أصعب درجات العنف والاضطهاد، وكأن جماعة من الألمان اختلوا بهارب يهودي في زنزانة واحدة!.
يونس المسكين لم يكن يعلم كل ذلك، كل ما دار في خلده عند إتمام الزواج، أن كل ما يفعله هي خطوات مقدرة لا بد منها، خطوات يجب المرور بها فهي التطور الطبيعي للحياة، ولكن الحقيقة أنها التطور الطبيعي للجحيم، ليقع أخينا بين المطرقة والسندان، حلقات مستمرة من الاغتصاب النفسي أبطالها سيدتين رقيقتين، الأولى ترى أنه متحذلق لا يصلح لشيء بالعمل، والأخرى تظن أن عكننة حياته هو ما يبقيه بعيدًا عن أعين النساء الأخريات، لا تعلم أنه كره كل ما هو مؤنث – كردة فعل طبيعية لمآسيه – كل ما يريده أن تنتهي حياته دون أن يضطر لإنهائها.

ولكن صدقت كل ما يحتاجه العالم حاليًا، أن يحارب العنف ضد المرأة!.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!