مقالات

عناقيد الوحدة

✍️ منة أحمد مهدي

إن كانت الحياة شجرة فالجميع عالق بغصون الوحدة

اختلفت الأمراض النفسية واختلفت سبل العلاج ولكن ستظل الوحدة أسوء ما قد يمر به من تأمل بوجود البشر، إنها القاع المظلم الذي يمثل نهاية السبيل لكل من مر به، السكون عند ثوران الواقع، إنها الرغبة العارمة بترك كل غالي ونفيس لأجل اللا شيء، إنها الوجود الأشبه بالعدم وإن صح التعبير فهي الوجود الأسوء من العدم، أن تشعر بالفراغ وسط حشد من البشر يَكِنون لك الحب والمودة، أن تتساوى عندك كافة الأمور كأسنان المشط فيكن الشيء ونقيضه لك سواء، أن تجد وسط الجماد السكينة عن صخب البشر، أي أن تكون على سطح الحياة بروحًا محنطة لا تعامل سوى الفراغ.

لم تقف الوحدة على أعتاب خلو الحياة من البشر بل أنها تطرقت لأن تفقد شغفك تجاه كل من تحب، أن تنظر لأقرب الأشخاص لقلبك وترحل، أن تنفر الجميع وتشعر بثقل أنفاسك معهم، أن تجد صعوبة بالغة بالإتصال البشري وتجد بروحك فجوة هائلة لا يُمحيها البشر.

إذا نظرنا لسجل ذلك الشخص المنعزل فستجده بإحدى الصور لا غيرها، فإما أنه شخص تعلق بأمل الحصول على رفيق طوال حياته وما إن حصل عليه رحل، أو أنه لم يرحل ولكن صاحب هذا الرجل الرهاب أن يرحل عنه خليله أو أنه لم يحصل إلى الأن على من يشاركة احتجاج الأيام.

تبدء الوحدة من حيث الأمان، من حيث المكان الذي يمثل نقطة القوة، تنضج الوحدة من حيث الجذور، من حيث الأهل؛ فالأهل هم بذرة الأمان فإن كانت صالحة لنمت الشجرة وأغدقت عاى الجميع من خيرها وإن كانت طالحة لفسدت الشجرة وسقطت بمرور نسمات الربيع.

كل طفل يخطو أولى خطواته وهو متشبث بيد ذوية ولكن ما يفعل عند افلات الأيادي فجأة؟أيسقط لهول المفاجأة أم يكمل متخبطًا بشفرات الأيام؟إن ظَنَنا أنه سيسقط فسيكون السقوط أولى خطوات التنحي، لن ينهض بل سيظل يحملهم ذنب سقوطه، سيعاند معهم الليالي، سيظل يبحث عن من يربط على يده ونادرًا ما سيجد، وإن وجد سيعلق برهاب الرحيل، سيخشى بكل لحظة أن يسقط مرة أخرى برحيل الرفيق، وإن نظرنا لواقعية الأمر فستجد هذا الشخص يسقط بين الحين والأخر عشرات المرات.

على الجهة الأخرى ستجد ذلك المتخبط بأوجه البشر، مدعي الثبات، ستجده أكثرنا هشاشة رغم ادعاه الثبات، لن يسمح لأحدهم بأن يقترب كثيرًا بل سيصاب بداء الشك وسيعتبر الجميع راحل وإن طالت مدة البقاء.

كلاهما سيكن أسيرًا للوحدة، كلاهما لن يجد ظالته بين البشر، أولئك الذين يحملون من المشاعر المتضاربة ما يُعجزهم عن ملىء فراغ الوحدة الكامن بالقلوب، ستتوالى عليهم تتابع من الإنهزامات والخذلان، وإن منَ الله عليهم بمن سيبقى سيبدأ ما أسوء من الوحدة وهو الوسواس الصارخ بحتمية رحيل هذا الشخص لأي سبب ستطرحه الحياة، ومن هما سيتحول من شخص وحيد لمريض بالخوف، ستتوالى بعد ذلك كل أشكال المعاناة بداية من المرحلة الأسوء على الإطلاق “العزلة” وهي أن تطرح الحياة والبشر أرضًا وتزهد كل ما هو حي لتستكين بصومعة الخيال وترسم بها من الحيوات ما يرضيك، حتى تجد ذاتك بك بين أحضان المرحلة الأخيرة “اللا مبالاة”، وهي اللا شيء وقت حدوث كل شيء، أن تُهزم بأهم معاركك دون الدفاع أو الأكتراث أي أن تكون حي لا يعاني وميت يشعر بصخب الحياة.

يمر مريض الوحدة المهزوم أمام ذاته بكل أشكال المعاناة ولكن سيظل البقاء للأقوى، لمن يهزم سكونه ويعتمد صخب الحياة.

يظن الكثير منا بأن العلاج يكمن باللجوء للطبيب النفسي، لا شك أن الطبيب المعالج له دورًا عظيم ولكن أهل يكمن الشرخ بالعقل أم أنه يمكث بالروح؟إن كان عجزك عالقٌ بالعقل فلتذهب لمن يخاطبه ولكن إن كان عجزك بالقلب فلن تجد عند الطبيب المتسع لمن عجزت أنت على استيعابه.

فسيظل ألمك عالق بكهف الا منطق وليس المنطق أخيرًا وليس آخرًا سيظل الألم باقي طالما ألفت وجودة بينما رحيلة يتوقف على تمردك ونفورك.

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!