مقالات

«في هذا الحي»

جميعُنا نهوى المناطق الشعبية، نُحب بساطتِها وتلقائية الناس فيها، فالمعظم يعيش فيها منذُ المنشأ إلى الممات، وبعضها يُسكن فيها لسببٍ ما، ومن ثم الآخر بعد رحلة كبيرة من العيش هناك يتركها، ولم يوفِ وعده بها.

نجد في المناطق الشعبية، عيشةً لم نرَها من قبل، نجد الطيّبة، والحُب، والأخوة المندثرة بين طيات كل فرد، نجد السلام، والنقاء، والبساطة، الديار هناك تُعد دارً واحدة، لا خوف، لا نفاق، ولا كُره، فقط البساطة في كل شيء، في أكلِهم، زيُهم، حالهم…

هم أُناسٌ سالمين لنفسهم ولغيرهم، وحتى وأن أصبحوا قِلة قلائل متواجدون بين حشدٍ من سُكان أهل المدن والمحافظات.

فَفي أهل الحي، تذهب فترى الرجال على كلمة واحدة، وتفكيرٍ واحد، بل الجميع، ترى جلابيبهم مختلفة يتميزون بها، والقبعات الخاصة بهم بلونها البُني، وترى آخرون منهم، يكونون من أعلى أقوامهم وهم ما يُلقبون بالعائلات الخاصة، أو أن مستواهم الاجتماعي يعلو عن غيرهم، فيُسمى ربُ البيت أو الأسرة هُناك «بالعُمدة».

وترى ديارهم، تختلف حسب الراحة المادية لكلِ واحد منهم، حسب عمله وعيشته، طبقاتهم تختلف عن بعضها، ولكن بوجه عام فأنهم لا يتخلون عن زيهم هذا مهما تطور حال البلدة، ومهما تواكب العصر، أنها عادة أهل القوم، لا يحبون أن يُشبهوا غيرهم، فينفَردون باختلافهم.

وترى النساء ترتدي جلابيات ذات أشكالٍ مُختلفة، تفتخر بها افتخارً واسع، بل الغريب في الأمر، سعادتهم بها، لا تخشى على حالها بأن حين تراها امرأة مثلها تنظر إليها بنظرةٍ تُحزنها وتكسر قلبها، يرتدن جميعُن أحجبتهن دائمًا، لا يسمحون لحالهن أن يتماشين مع تطور الأزياء، فيُغيرن من شكل لباسهُن، فأن كل ما يعرفونه أن هذا الأمر قد توارثهُ عن آبائهن وأمهاتن، ليورثوا عاداتهم لأولادهن أيضًا.

وصغارهن هكذا.. بناتٌ لم يتخطَ عمرهم نيف العشر، تراهم يحسنون كل شيء، قد أخذوا الجودة في كيفية إعداد الطعام، والخبيز، والكلام، تراهم على حياءٍ كامل، لا يسمحون لهم أهلهم بأن يُخالفن مبادئهم، لا يسمحون أن يلبسن الضيق والقصير، فيُصبحن ممن ينطبق عليهم حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) كيساتٍ عاريات -إلا ما رحم ربي منهن-.

فتراهم يُغدون صباحًا لعملهن، ويُحبذن السعي والاهتمام برزقهن، وترى الصغار منهم يذهب كل واحدٍ مع والده ليراهُ كيف يعمل، فيتعلم سر صنعتهِ، ويُمارسها، تراهُ صغيرًا لم يبلُغ بعد، ولكن لديه من الفطانة ما لم ترَها في أطفال أهل المدن.

حياتهم تترواح بين نومهم وراحتهم وعملهم فقط، لا وقت لأي شيءٍ آخر، يترفهون ويلعبون ويخرجون ويفعلون الكثير، ولكن الجد والسعي هي محض معيشتهم وحياتهم، والاعتماد الكُلي والأساسي لهم ولرزقهم.

فترى كلامهم البسيط، الجميل، سريع النبرة -عادةً-، لونهم الخمريّ المُحمل بالتعب والمشقة، يشبهون بعضهم البعض، ويعرفون بعضهم بعضًا وكأنها علامات بينهم، يجدون أرواحهم في رائحة أشباهِم وحياتهم، فيدركون أنهم من هنا، أنهم ابناء قريتتهم وحيِّهم..

فبمجرد مرورك من أمامهم يقفون إجلالًا واحترامًا لك، ويقولون: «اتفضل يا بيه، تعالَ كل معانا لُقمة، طب تعالَ هنحط العشا…».

حتى وإن كنت تعلم أنها مجرد كلمات، ولكن تسعد بروحهم وتلقائية حياتهم ونظرة عيونهم لك، يعلمون مولدهم من دخيلهم..

فأنت إذا رميت السلام على أحدهم مرة، تلقى الجميع يُجيب في نفسٍ واحد، كقلب رجلٍ واحد:
اتفضل يا بيه.. تعالَ اتفضل .. منور المكان والله..
_إزيك، تعالَ طب أشرب شاي..
ترى ترحيبهم هذا مُصاحبًا بارتفاع كف إيديهم؛ ليعبروا عن سلامهم بك وبقدومك.

تسعد لهذا الأصل الطيب، لهذه الروح المعطاء، للالتزامهم بمبادئهم وتقاليدهم، وهدوء بيوتهم وأسرار بساطتها، لكرمهم الواسع، لسيرِهم على معيشةٍ يحرم فيها التغير، بل تفسد، يختلفون تمام الاختلاف عن أهل المدن، وسُكان العمارات، هم على عهدهم ووعدهم ما استطاعوا، يَرِثون ويَتوارثون، لطفاء وبُسطاء للحد الذي لو احترق الكون حولهم، وانقلب رأسًا على عقب، سيظلون على أصلهم الصحيح، والعقيدة الراسخة الثابتة، هكذا كان لقائي بين سُكان وطيبة أهل هذا الحي.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!