همسه

نظارة سوداء

مراجعة لغوية وتدقيق إملائي: شيرين وجدي

لم يكون يومًا يسيرًا، هواء مكتوم وحار، زحام مروري هائل، وحفنة من البشر الغوغائيين الذين يجوبون الشوارع محاولين إخراج طاقتهم في العراك مع غيرهم.

قررت أن أترك سيارتي في أقرب جراج خوفًا من اصطدامها بـ “ونش” المرور الذي يرفع كل سيارة أمامه على الطريق، أو صدمها عن طريق سائق طائش دون قصد أو عمد.

ترجلت منها وأنا أرتدي نظارتي السوداء مقررًا الاتجاه إلى أقرب مكان هادئ محاولًا الهروب من إزعاج الشارع وما به من ضوضاء.

لم يكن علي السير كثيرًا حتى اصطدمت بمكان يبدو عليه الهدوء، وبمجرد أن قمت بفتح الباب بدأ ضوء الشمس يخفت رويدًا رويدًا، وبدأت أشعر بهواء التكييف المنعش يلامس جسدي.

نظر إلي الجالسين للحظة ثم عاد كل منهم إلى ما كان يفعله سلفًا، الأمر الذي جعلني أتمسك بنظارتي السوداء، فمن خلف عدساتها تستطيع التركيز في أشياء ما كان بإمكانك التركيز فيها إلا من وراء حجاب.

وبدأت أتجول بعيناي من خلف عدساتها دون أن يلمحها أحد فوجدت امرأة تحاول أن تقنع ابنها بصوت خافت أن الرجل الذي تجلس معه والذي بالمناسبة ليس زوجها سيستطيع أن يخلصهما من حياتهما البائسة التي يعيشونها مع زوجها.

وهناك شابُ آخر يجلس مع فتاة في الركن البعيد الهادئ محاولًا أن يمسك يديها وهو يتلفت ليتأكد من عدم وجود أي عيون مركزة عليهم.

أما عن النادل الذي يقدم المشروبات فيبدو أنه لا يرغب في اقتسام “البقشيش” مع أصدقائه، فقرر قبل سحبه من يد “الزبون” التأكد من أن صاحب المكان لا ينظر إليه.

وصانع المشروبات الذي يخفي تحت طاولته كوبًا من الأشياء التي يقدمها، ويأخذ منها رشفات متقطعة خفية دون أن يلمحه أحدهم.

وصاحب المكان الذي يجلس أمام التلفاز وهو يتلفت يمينًا ويسارًا محاولًا تصيد أي خطأ على أي عامل بالمكان ليستطيع مجازاته بما يضمن تخفيض النفقات عليه دون الإضرار بجودة الخدمة.

في الحقيقة كل تلك المواقف التي شاهدتها لم تكن تندرج تحت أي مسمى سوى “الخجل”.

الجميع يخشى الفضيحة، يخشى كلام الناس، يخشى أن تصبح سمعته سيئة بين الناس، ولكنه راضٍ تمامًا عما يفعله بملء إرادته وهو مقتنع بأنه ليس مخطئًا أو فاسدًا.

وتستطيع قياس ذلك على جميع فئات وعناصر المجتمع بمختلف توجهاتهم وأماكنهم.

أصبحنا نخاف من الناس وكلامهم قبل أن نخاف الله، بتنا نحرص على مشاعر الغير دون الشعور بالنعمة التي أنعم علينا بها الخالق، أصبح رأي الناس ونظرتهم إلينا تهمنا أكثر من نظرة الخالق عز وجل لنا.

أصبحنا نقيم الخطأ والصواب بمفهومنا الخاص، ونضع الحلال والحرام خلف ظهورنا ما دام الأمر يسري لمصلحتنا، أصبح دور الدين في حياتنا مقتصرًا على أنه “الأفيون” الذي تستطيع به تصبير نفسك على البلاء حينما يصيبك.

حينها لم تثب في ذهني إلا كلمة الرسول “إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت”، وكأنه كان يعلم أنه سيأتي يومٌ على أمته ويكون الحياء بالنسبة لهم أقوى من الحلال والحرام، فما كان ينطق عن الهوى.

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!