قصص

الأم البتول

شريف جلال القصاص

لطالما كانت الكلمات طوع بناني أشكلها كيف اشاء تتدلّل علي أحيانًا، لكنها سرعان ما تحني لي خضامها مستسلمة، أعبر بها حواجز اللغة السامقة وأنا أمتطيها متبخترًا.
لكن مال هذه المرة تتمرد علي؟ وتعصي قلمي؟ تأبى علي كلما حاولت أن أقوم بترويضها في عبارة رشيقة؟ بل إنها تكاد تنهرني وتقول لي:
نحن في سرادق عزاء لاينبغي أن ينتشي فيه الناس بمسكرات الجمل الرشيقة.
نحن في محراب معبد بؤس لا يجوز أن يدنس بالجُمل والعبارات البليغة.
حتى الحروف تجمعت في كلمات متوشحات بالبياض المقيت في مظاهرة اكفان مهيبة.

وها أنا قد أٌُجبرت_ أن اطأطئ هامة قلمي، ممسكًا بجماح رغباته في استعرض فحولته، اخفض أجنحة فصاحته كلما حاول أن يتعالى في سماء الإبداع_
وأنا اكتب قصة(نمير)الفتاة المسكينة وأمها(سماح السميري).

أشرقت (سماح) الفتاة الأجمل بين الفتيات الجميلات ومثار حسدهن في واحدة من قري مدينة المنصور _ أيقونة الجمال في مصر_ ولأنها وحيدة والديها استحقت كل أسباب التدلل، جمعت مع الجمال، ذكاء فطري لكنها لم تستثمره في الدراسة واكتفت بالحصول على دبلوم التجارة بعدها توفيت والدتها؛ ليُدق أول معول هدم في جدار سعادتها.

لكن والدها السيد (السميري) أكبر تجار مواد البناء في مدينة المنصورة كلها والذي يقدره الجميع، فله أيدي بيضاء على كل أهل بلدته، أنفق من حُر ماله لبناء مدرسة ثانوية، ومعهد أزهرى وعدد لابأس به من المساجد، ووحدة صحية مجهزة بكل الوسائل الحديثة، فيها حضًانة لحديثي الولادة ووحدة غسيل كلوي _

برغم حزنه على رفيقة دربه، عاش لإبنته راهب في محراب الأبوة، وقديس يظهر لإبنته معجزات التجلي لها، مثل أقانيم متعددة داخل جسد واحد، فقد كان لها أب وأم وأخ في آن واحد.

تقدم لتلك الفاتنة (كريم) شاب وسيم ومن عائلة كبيرة في قرية قريبة من قريتهم، عاشت معه السعادة لكن إلى حين! رزقها الله ب(نمير) بعد عام واحد من زواجها، والتي كانت نسخة من أمها في كل شيء.

جلبت(نمير) لوالديها المودة التي كادت تنطفيء وبددت رتابة الحياة، التي تنذر بالاسوء، ثم مرت سنتين من التذبذب في علاقة سماح وكريم،
كانت الطفلة الصغيرة تتدخل بأدواتها السحرية لتعيد البسمة لأسرتها الصغيرة، وتصب وفق حسابات بالغة الدقة مزيد من اكسير البهجة على قلب أمها بنفس القدر الذي يحسمه أبيها من الحب لأمها.

أنجبت سماحخلال أحد عشر سنة من زواجها لطفلتها (نمير)أختين؛ فعندما بلغت نمير العاشرة وصلت (نادين) إلى سن السادسة ثم (نيرة) سنتين.

دبت الخلافات بين (سماح) وزوجها (كريم) بعدما فشلت في أن تنجب له ولد وكأن ذلك بإردتها، حرضه أبوه على الزواج بغيرها وبرغم غضبها الفطري لم تفعل شيء وليتها فعلت، فقد أرسل لها كريم بعد ذلك وثيقة طلاقها.

استسلمت لقدرها وعادت لبيت أبيها بعد أن خرجت منه، ولكنها عادت بثلاثة بنات وصار (السميري) أب لأربع بنات، بذل لهن كل شيء ليعوضهم مرارة فقد الأب.

بعد شهرين من الطلاق شعرت (سماح) بضيف يحل داخل رحمها، لتكتشف بعد ذلك أنه ولد، عرف(كريم) بذلك وفتح أبواب الإتصال لاستعادة زوجته وأولاده، لكنها رفضت أن تعود له؛ فلن تقبل بصبح ذلك الرضيع بمثابة كفيل لها، يسمح لها بالإقامة خارج وطنها.

أنجبت بعد أن أكملت سبعة أشهر ولدها(نادر)،
قرر(كريم) منع الإنفاق على أولاده للضغط علي تلك المكلومة فتعود له صاغرة، لكن هيهات فقد أدركت أنها زوجة لعائلة زوجها، وليس لزوج يستطيع أن يشعرها بالأمان.

اغناها والدها عن العمل و عَفّها أن تلجاء للمحاكم لتحصل على نفقة مناسبة لأطفالها، تضاعف حنان (السميري) وشفقته لتتسع لسماح واطفالها الأربع، لاسيما(نمير) المقربة من قلب جدها.

استغل (طلعت) والد (كريم) مرض (سماح) وتدهور حالتهابعد أن وشى له أحدهم أنها تتردد على المستشفيات في المنصورة والقاهرة، وانها تعاني من مشكلات في إحدى كليتيها وقام برفع قضية ضم (لنمير) وأخواتها، طمعًا في أن يرثوا ثروة جدهم العجوز المريض أيضًا واللذي أوشك على الموت، ومن ثم تصبح تلك الثروة في ايديهم.

وبالفعل تحقق لهم ما أرادوا وتمزقت( سماح) لوعة على فقد أولادها، كانت تموت كل ليلة بعدما تعود من أمام بيت أسرة طليقها_ منزوعي الرحمة_ بغد أن تلقي نظرة على أبنائها، حيث كانوا ينتظرونها في شرفة ذلك السجن الكبير.

تعرض الصغار لكل صنوف القهر وخاصة(نمير) بسبب دفاعها عن أمها كلما ذكروها بسؤ، حاولت أن تهرب مع أخوتها مرات، وكانت تلقى جزاء ذلك ضرب ومنع من طعام، وربما كي بالنار.

اذداد مرض والد (سماح) حزنًا على ابنته التي كان يراها تموت دون أن يستطيع فعل شيء لها، ثم ساءت أحواله المالية وتراجعت مبيعاته، واستغل مدير حساباته وابن عمه ذلك ورد المعروف بالجحود، واحتال في الإستيلاء على كل مايملكه (السميري) من مخازن ومحال وحتى الأرصدة البنكية عبر خداعه وجعله يوقع على بيع كل شيء، ولم يبقى له غير بيته الذي يعيش فيه مع ابنته وأحفاده.

كان ألم الرجل ليس حزنًا على ثروته التي أفنى عمره في جمعها بالحلال والأنفاق منها على المحتاج، ولا لأنه تعرض لنصل سكين نفذ عميقًا في قلبه أتاه من قريبه الذي قد نال من فضله قسطًا وافرًا، وانما لكونه أصبح عاجزًا عن الإنفاق على ابنته المسكينة.

عندما علم (طلعت) بذلك شعر أن خطته باءت بالفشل فأعاد الأطفال من حيث أتوا فلم يعد هناك ما يستحق تحمل الإنفاق على أولئك الشياطين الصغار، شعرت نمير وأخواتها بفرحة تغمرهم، وكذا أمهم فقد عادت إليها روحها، وشعر جدهم_ برغم خوفه من أن يفشل في تدبير شؤون حياتهم لاسيما طعامهم ومصاريف دراستهم_ أن ابن عمه أسدى إليه معروفًا بسرقة ثروته إذ كان سبب في عودة الحياة لابنته وأحفاده.

اضطرت (سماح) أن تخرج للعمل لأول مرة في حياتها برغم تدهور حال كليتها، عملت في أحد دور الحضانة، حتى تستطيع الإنفاق على نفسها وأولادها، خاصة وأن والدها أوشك أن ينفذ ما لديه من أموال ثمن بيعة قطعة أرض كانت لزوجته.

كانت سماح برغم كدها في العمل تدرب(نمير) أو نونة_ كما كانت تدللها وتناديها في لحظات سعادتها النادرة_ على أن تكون بديلًا لها تعدها لتصبح أم لإخواتها، تشرف على طعامهم وشرابهم ونظافتهم.

زادت شكوى (سماح) من كليتها لتثبت نتيجة الفحوصات انها اصبحت مصابة بفشل كلوي، اُضطرت معه إلى دخول نفق الغسيل الكلوي في المركز اللذي أقامه والدها.

لم يحتمل (السميري) الرجل ذلك القهر وخاصة وقد تنكر الجميع له، رفض من كان افضاله عليهم أقراضه بعض المال، سقط الرجل في غيبوبة أسرعت (نمير ) واستدعت الدكتور (شكري) صديق جدها، وبعد التحاليل أكتشف أن كليتيه قد استنفذتا تمامًا، وبدا أن الأمر وراثيًا، وما هي إلا أيام ويموت الرجل، وتفقد (سماح) و(نمير) سندهما بعد الله.

اشتد المرض على (سماح) التي كانت تقاوم وتجادل الموت أن يمهلها حتى تنتهي (نمير) من خوض امتحانات الثانويه العامة التي كانت على الأبواب، لم تكن حجج سماح مقنعة بما يكفي فلكل أجل كتاب، أوصت سماح ابنتها نمير أن تنجح، وأن تَرعي أخواتها أو بالآحرى أبنائها، فقد سارت أم لهم رغم أنها مازلت طفلة، ثم استودعتها الله فهو الذي لا تضيع ودائعه.

دفنت (نمير) أمها في التراب الأسود، اللون اللذي لازمها باقي عمرها القصير،وضعت في ذلك القبر ليس جسد أمها وحده بل بجانبه القت سعادتها وطفولتها وأنوثتها بل ربما بشريتها فقد صارت اقرب لشبح.

نفذت الأم البتول الوصية ونجحت في الثانوية العامة برغم إهمالها مذاكرتها حزنًا على أمها، وتخطت الثمانين في المائة، لعب الحظ والتوفيق معها قدر ما يستطيع.

قام الدكتور (شكري) بالعناية بأحفاد صديقه، حيث كان يسأل عنهم ويجمع لهم التبرعات من هنا ومن هناك، ثم نصح (نمير) أن تدخل كلية العلاج الطبيعي وأن تعمل أثناء دراستها في المراكز الصحي الذي بناه جدها، وخاصة وقد تولى هو الإشراف عليه وصار مديرًا له ونجح في منحها الفرصة للعمل فيه لتنفق على نفسها وأخواتها.

أتمت (نمير) عشر سنين منذ أن دفنت أمها ظلت طوال تلك السنوات العجاف تعاني مرارة الأيام على طرف لسانها عساها تسقط من ثغرها يومًا؛ كي تتذوق طعمًا آخر وتجرب صنفًا مختلفًا من نكد الحياة، وعلقم الواقع وكآبة المصير.

لم تكن تطمع أن يحل مكان حزنها الزعاف مذاق السعادة الحلو، فذاك بالنسبة لها مستحيل، لأن الأعمى لن يرى من الألوان غير السواد، والأصم لن يسمع من الأصوات غير الصمت.

ظل المُر بعد فقد أمها يسكن حلقها، ثم انسكب إلى جوفها بل وغاص عميقا حتى استقر في روحها، وراحت روحها البائسة تتسع لكل اوجاع العالم، بل ربما تجذبها مثل ثقب أسود نَهم يقتتات على الحزن ولا يستسيغ غير الضنك.

كانت سلواها كل ليلة ان تغلق على نفسها وتنصب عباءة أمها على باب غرفتها وتقص لها كل ما مر عليها طوال يومها، كانت تبكي مرة وهي تحتضنها، وتضحك أخرى وهي تضرب على زراعها كعادتهما في حياتها.

كانت لا تمل كل ما سنحت الفرصة أن تقص لإخوتها قصة أمهم، وتذكرهم بكل ما مرت به من عذاب وكيف احرقت روحها، كي تضيء لهم ظلمة الحياة وكيف غزلت من معاناتها، ما تبني لهم به عُش تحميهم فيه من هجير الدنيا ورمضاءها.

واصلت ليلها بنهارها في الصباح تقوم بإعداد أصناف من الحلوى تجيد صنعها وتعرضها على الشبكة العنكبوتية للبيع، وكان أهل القرية يتعاطفون معها ويشترون منها كل ما تصنع، وفي الليل تعمل في المركز الطبي، حتى كادت أن تصل بأولادها إلى بر الأمان.

أنهت (نادين) كلية الفنون التطبيقية وانتقلت للعمل في القاهرة في مكتب ديكور كبير، أما(نيرة) فقد أصبحت في الصف الثاني من كلية الصيدلة، حيث أعدت لها نمير أحد حجرات بيت جدها الكبير في الدور الارضي ليصبح صيدلية لها بعد تخرجها،

تعرفت (نمير) على طبيب في المركز الطبي الذي تعمل به شعرت بتقربه منها، كادت تنجذب له ففيه كل ما كانت تحلم به حينما كانت مسموح لها أن تحلم، لكنها تخلت عن حقها في الاحلام بأرادتها وصارت تهب نفسها لأخواتها تنفيذا لوصية أمها، أغلقت أبواب قلبها قررت أن تغادر ذلك المركز الطبي حتى لا تسقط في جريمة الحب، ومن ثم تقع في مستنقع السعادة مع زوج فتتخلى عن أولادها.

طلب الطبيب الشاب من الدكتور شكري يد (نمير) فقد كان الجميع ينظر إليه على أنه والد لها، وبالفعل عرض عليها الأمر وظنها ستقبل، لكنها رفضت وأخبرته أنها وهبت نفسها لأولادها فقد صارت أم لهم منذ فقد امها، وستظل راهبة في صومعة تلك الغاية وستبقى بتول تؤدي دور الأم دون أن تتزوج.

بعد أشهر جاء الدور على شقيقها الأصغر (نادر) ليخوض غمار الثانوية العامة، وطوال ذلك العام أنفقت من صحتها كل ما تملك حتى تحقق له حلمه فكان يطمع أن يدخل الفنية العسكرية، وبالفعل تجاوز مجموعة التسعين بالمائة، وساعدها الدكتور (شكري) عبر علاقته أن يجد له واسطة ليلتحق بما أراد.

بعد أيام من ذلك أخبرت (نادين) شقيقتها الكبرى بأن زميلًا لها يريد أن يتقدم لها، تهللت (نمير) ورحبت، وحضر العريس من القاهرة، وقد كان متعجلًا في أمر الزفاف.

وبالفعل تم كل شيء في ثلاثة أشهر وقبل الزفاف بعشرة أيام، بينما كانت الاستعدادات على قدم وساق اتصلت (نمير) بالعروس اخبرتها، انها كانت تحلم أن تؤدي العمرة وقد جاءتها الفرصة ولن تفوتها وأنها ربما لن تدرك عرسها واقسمت عليها ألا تؤجله، وطلبت منها أن تسامحها وتمنت لها السعادة حزنت أختها، لكنها نفذت أمر اختها، وتم العرس لكن (نادين) برغم شعورها بالسعادة كانت تحس بشيء من الخوف الممزوج بالحزن دون أن تدرك السبب.

بعد عشرة أيام من زفافها جاء إليها شقيقها الصغير والدموع تملئ عينيه، كان يحمل لها الهدية الأخيرة من أمهم (نمير) عرفت منه مع تلك الهدية أن أختها الكبرى أخفت عنهم أنها تحتضر كي لا تفسد عليهم سعادتهم ليكون خبر إخفاء وفاتها وأن تحرم نفسها من وداع كل من تملكهم في هذا العالم آخر تضحية تقدمها لهم.

ومن ثم سبقتهم راضية لتلحق بأمها التي طال إنتظارها لها، لقد كانت مستعدة وتعلم حين تلتقي روحيهما ما ستقوله لها على هذا الغياب فقد كانت تؤدي واجبها.

لو كان لأحد أن يرى لقيا الأرواح الطيبة لشخصت عينه وهو يرى (نمير) تختال في زينتها التي حَرمتها على نفسها طوال عمرها حزنًا على والدتها الغالية.

لو قُدر لأحدنا أن يرى الغيب لبُهر بجمال طلعتها وهي تهرول لترتمي في أحضان أغلى الناس بل كل الناس لها، بعد طول غياب.

لو كانت كاميرات ما تستطيع أن تصور ذلك القبر لصورت وجهها يتهلل ويضحك، مثل عصفور عاد إلى عش أمه.

من أطلع على ذلك السراب الجميل سوف يصفق وهو يرى (سماح) في استقبال ابنتها الغالية تفتح جناحيها تداوي آثر جراح عميقة لم يعد تؤلمها فالأرواح الطاهرة لا تتألم، سيكون مشهد عناقهما أروع من أي وصف.

سلام لك يا (نمير) فقد آن لك أن تستريح روحك وأن تهدء أنفاسك المتقطعة ليت النهاية كانت سعيدة لنا، كي لا تبكي قلوبنا عليك، لكن حسبك أنها سعيدة لك فقد كانت بسمتك لمن شاهد رحيلك قبل أن تنطقي الشهادة وتطفئ شموع حياتك تنبأ أن القادم افضل بالنسبة لك.

ربما رأيت نعيمًا بنتظارك يعوضك الله به عن كل كلاليبُ الحياة التي لطالما مزقت روحك البريئة، ربما شعرت بسعة العيش، ونسمات الجنان بديلًا عن نيران لم تبقي حتى الرماد من كيانك الرقيق دون أن تحرقه.

سلامًا… وألف سلام على كل من لم يأخذوا حقهم في الدنيا واستبدلوه كاملًا عند الله فهو أبقى وأسعد وأرغَد.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!