
إن أسوأ ما قد يواجهه المرء، هو الفقد.
الفقد لشيءٍ تحبه، الفقد لشخص، لروحك القديمة، لحياتك فيما سبق، لنفسك!
قد يكون هذا سبب كبير من أسباب الانتحار، هو الشعور بالاستسلام، لحظة الوصول إلى اللا شيء، إلى فقد نفسِك، أو فقد ذاتك!
لمَ يلجأ المرء للانتحار، ما السبب، بل ما الذي حث في نفسهِ إلى الوصول إلى هذه النقطة، هل عندما يفكر الإنسان فيها، يُفكر في انتهاء حياته هو، أم انتهاء وجعه الذي يريد الهروب منه!
كنت في إحدى الكافيهات المحلية، جالسةٌ أناقش فكرة لمَ قد يصل فكرة المرء إلى الانتحار؟، فوجدت فتاة لم تبلغ من العمر ربعه، كان عمرها يترواح بين الثالثة والعشرون عامًا وما فوق، فوجدتها تبكي بكثرة، لدرجة تؤلم القلب وتلفت الانتباه، فَرق قلبي لها وذهبت لأجلس معها، وإذ بها تتحدث تلقائيًا حتى دون أن أسألها، يبدوا على وجهها الشحب والأرق الكثير، تقول لي: «أنا مش عارفة أعمل إيه تاني، أنا كل حاجة عملتها منجحتش فيها، دراسة وفشلت، حياتي الشخصية، وضاعت مع الي راح، ولا لاقية شغل ولا عارفة أشتغل، وعاملة أدور ومفيش فايدة، بقالي سنتين بَعيد في رابعة ومش عارفة أنجح، أهلي ديمًا يقولولي أن مصيبة ليهم، بيبصولي ديمًا بنظرة كسر، كأني مشرفتهومش في حياتي خالص، صحابي الي كانوا قربيين مني اتنين تلاتة واتخرجوا وشافوا حياتهم، طب أنا ليه، أنا حياتي واقفة ليه، حتى يوم ما حبيت وقولت هلاقي الي يأخد بإيدي سابني في نص الطريق، أنا خلاص كرهت حياتي، مبقتش عاوزاها يا رب، عاوزة أنتحر وأخلَص وأريح نفسي والناس مني…».
وأجهشت بالبكاء، فوقفت برهةً أمام كلامها، وكأنها كانت تعلم ببحثي فأعطتني كل الإجابات الشافيه له، أو على الأقل معظمها!
بدأت أُساعدها على الهدوء، وأسلب منها كل الشحنات السلبية التي تُفكر فيها، أملةً خير بأن تترك هذه الفكرة وهي فكرة الانتحار!
فتاة في ربيع عمرها الذهبي تفكر في ترك حياتها، لمَ!، لعدة أسباب قد استسلمت أمامها، تركت لفكر الوسواس بضعفها وقلة حيلتها أن يتغلل بداخلها، فيضعفها إلى حد الاستسلام!
فناقشت قضيتي، هل لكل الأسباب تلك من كفاية لترك رغد الحياة؟، هل جميع البشر يتفقون في هذه النقطة!، هل لو لم ينجح أحد في شيء فيصبح الانتحار سبيله لا محالة، هل يريد المنتحر أن يتخلص من حياته السلبية، وشعوره بالعجز، أم حياته كُليًا!، ولمَ لا نقول أن بعده وقلة إيمانه بالله وبقدره سببًا عظيمًا في ذلك!
عدة من التساؤلات رأيت… إلى أن أُجربت بإجابة واحدة:
لم يكُن الانتحار حلًا أبدًا، لم يكُن التخلص من الحياة، بتلك الطريقة هو الارتياح التام لنا، نحنُ لا نريد أن نُنهي حياتنا، بقدر ما نريد أن نُنهي بُؤس ما يواجهنا، نريد أن نَسلم من تعثرات الدنيا، نريد أن نعيش الحياة بكل روائعها، نعم… سنرى الكثير من التعثرات ولكن لا بأس، لمَ لا نحارب لنصل، لمَ لا نقف كُلما وقعنا، فالحياة تجارب، والتجارب منها المفيد ومنها اللاشيء، لمَ لا نجعل حياتنا كلها مُفيدة، فنأخذ من اللاشيء فكرة وإن كانت ما بين السطور، كلمة واحدة، تقوي قلوبنا وتُساندنا فنقف لها ومن أجلها.
لم يكُن النجاح أمرًا سهلًا، بالعكس، نحاول ونحاول مهما طال بِنا العمر وبدى، مهما فشلنا، لنا الخيار والقوة والحياة الاستمرارية للقيام مُجددًا.
قد أمرنا الله بالسعي، قد أمرنا بالامتثال والطاعة لأمورهِ ونواهيه، قد أمرنا أن نؤمن بالقدر خيره وشره وندعوه آملين واثقين في عطائه واستجابته، حشاه أن يظلمنا وأن يجعل حياتنا كلها هباءً منثورا دون حكمة، حشاه أن يُرينا فقط مُر الحياة ويترك حُلوها، حشاه رب العزة عن ذلك، ولكن لكل شيءٍ سبب، حكمة، أمرٌ فيه خيرٌ لنا وأن أصبحت حياتنا كلها مُرة، فالله لن يظلمنا البتة، سيظل هناك نورًا بعيدًا نتمسك بهِ ليأتي، فأن الله لا يمل حتى نمل، لمَ لا نأخذ من مُر العلقم شهده!
هل لبُعد حبيبٍ سببًا قوية لترك حياتك كُلها؟، أم لعدم إتفاق الأهل مع ابنائهم سببًا كفاية لبغضِ الحياة بهذا الشكل؟، وإن فرضنا… هل سيظل الوضع هكذا، داوم الحال من المُحال، وإن كانت الأهل قاسية في طريقة تعبيرها عن حبهم لنا، وإن اختلفت وجهات النظر مِرارًا وتكرارًا وللأبد، هم هكذا يرون الفكرة بنظرة مختلفة، ويعبرون عنها بنظرة مختلفة، ولكنهم لا يريدوننا إلا أن نصل لنقطة ترضيهم، وماذا عن الحبيب، ما الفكرة التي تجعلنا نخسر حياتنا كلها لأجل شخص، هل تراه عدلًا!، هل فقدت الإيمان بالله لهذه الدرجة، قد يكون رحيله أفضل من وجوده بمئة مرة، قد يكون ذهابه، فضلًا من الله لنا لا نعلمه.
وإن كانت حياتك تختلف كُليًا عن غيرك، وإن كانت عكس ما تتمنى، لا ضير… فاصبر وما صبرك إلا بالله، ألم تسمع بقول هاجر زوج إبراهيم عندما أمر الله إبراهيم أن يتركهم في صحراء فارغة، وكان معها رضيعُها، فقالت له: «آلله أمرك بهذا؟»، فأجابها نبي الله بنعم، فقالت: «إذن لن يُضعينا».
هي الثقة، الأمل في الله، عِباد الله نحن وخلقه، فهل يخلقنا لكي يُعذبنا، أم هناك حكمة لهذا!
قُل لي، إذا حاولت رمي نفسك في البحر، هل ستترك نفسك أم تحاول في إنقاذها لتخرج!، أنت لا تريد إنهاء حياتك، أنت تريد فقط التخلص من مشاكلك والعيش في سلام، هذا حال الدنيا، فآمِن بذلك.
وتذكر أن الله خلق لك من النعم أكثرها، -وإن كانت قليلة في عينك-، وإن حياتك كلها بيد الله، فلمَ تُنهيها بشكلٍ حرمه الله، لمَ تحاول التخلص من شيء هي بأصل لم تكُن لك، حارب، حارب دائمًا ولا تستسلم، فالإنبياء أكبر عبرة ورسالة جعلها الله لنا، شاهد أولي العزم ماذا فعلوا، الله قادر على أن يُبدل سوء أحوالك إلى أحسنها!.
فالانتحار لم يكُن حلًا أبدًا، هو فقط هروب…