ابداعات

وأخيرًا انتهت المعركة

✍️ مودة محمد مصطفى

وكأنك جسد بلا روح، تظن نفسك حيًا وأنت في الأساس ميت، أو ميتًا تظن نفسك حيًا، فلا فرق بينهما في الحالتين أنت ميت!

أتذكر في كل مرة كانت تصطحبني أمي إلى المشفى لآخذ جرعة الكيماوي، كل مرة تسقط فيها شعرة من شعري أو تذرف فيها عيني الدموع كانت هي تبكي أيضًا، ولكن بحرقة مكتومة، تريد أن تظهر أمامي بصمودها الشامخ، وتنتظر حتى أنام لتطلق صراح عبراتها علها تهدأ من النار المتأججة في صدرها.

كانت أرفف غرفتي بالكامل تحصد عددًا من الأدوية أكثر من الألعاب، لم يشكل ذلك فارقًا على أية حال؛ فلم أعد أقوى على اللعب، وبت أسير على كرسي متحرك وكأن عضلات جسمي قد رفعت رايتها البيضاء معلنةً استسلامها أمام ذلك المرض.

بدأ وجهي في الشحوب، وكانت عيني نزيغ من وقتٍ لآخر، أصبح نومي متقطعًا بسبب الدواء، وكان الطعام يدخل جوفي فقط ليبقيني على قيد الحياة -دون أن أتذوقه- لم يعلم أنني ميتٌ بالفعل!

كم ظللت أرمق الأطفال بطرف عيني من النافذة وهم يلعبون الكرة، تكاد قدمي تطير إليهم طلبًا للطفولة وليس فقط للعب، كنت أربت عليها مواسيًا، أم كانت تلك مواساة روحي المنهكة.

ظللت على ذلك الحال ست سنوات، ست سنوات، وأنا أعاني في صمت، ست سنوات من الكيماوي القاتل، ست سنوات وجسدي جثةٌ هالكة، ست سنوات من الرأس الفارغ حتى من ثغرات الشعر؛ لقد قضي عليّ تمامًا. ست سنوات وأنا أتصنع تلك الابتسامة المهترئة في عين كل مشفقٍ عليّ وعلى حالتي، لا تنظروا إليّ تلك النظرة، فأنا لست بحاجة إلى شفقتكم، كفوا عن تلك الهمهمات حول إمكانية أن يمر هذا العام بسلام، وهل سأعيش عامًا آخر بعده؟!

لم أكن أعاني من ذلك المرض -بغض النظر عن الإرهاق الجسدي- على قدر المعاناة النفسية التي أذقتموني إياها طيلة هذه السنين.

أتذكر يومًا كلمات الطبيب المعالج -وكان من القلائل الداعمة لي خلال فترة العلاج- «أنت لست مريضًا يا بني، بل إن الله اصطفاك لتكون في صفوف المحاربين».

ونظر إليّ حازمًا: هل تقوى على الحرب؟ أم تود أن يلحق بك شيم الهزيمة طيلة حياتك.

نظرت إليه والدموع تترقرق في عيني: وماذا إن رفعت الراية البيضاء قبل أن تبدأ الحرب بالفعل؟

وقتها ضمني إليه بقوة ووضع يده على كتفي وقال: أتعلم أني كنت مريض سرطان لأكثر من عشرة سنوات؟
قلت له في ذهول: حقًا؟!

قال: بلى، وفي كل مرة يقول فيها الأطباء أن هذا آخر عامٍ لي كنت أقول لهم: لا، لم تنتهِ الحرب بعد.

الحرب هي بلاؤك، والعدو هو مرضك، والمحارب هو أنت.
لا تدع المعركة القادمة تفوتك يا بني؛ فلقد أوشكت الحرب على الانتهاء.

وكأن كلماته ظلت تبحث داخلي عن بصيص أمل حتى عثرت عليه ودبت فيه الحياة من جديد.

في تلك الليلة تحديدًا، ظللت أبكي وأدعو الله كثيرًا أن يشفيني، عاقدًا العزم على المضي قدمًا نحو المعركة القادمة.
كنت على يقين تام أن هذا الجحيم على وشك الانتهاء بالفعل، وهذا ما حدث.

بعد ثلاثة أشهر، انقلبت الحياة رأسًا على عقب، أصبحت أستشعر مذاق الطعام وكأنني لم آكل من قبل، صار الذهاب إلى جلسات الكيمياوي أشبه بالمناورات على مخيمات العدو، صارت الأيام تتابع وصحتي تتحسن، وكدت أطير من الفرح حين نبتت تلك الصحراء الجافة بعضًا من شعيراتها تعلن عن تمردها على هذا المرض

وبعدها بأيامٍ ظهرت نتائج التحاليل الأخيرة، لأجد بابنا يطرق في السادسة صباحًا من طبيبي المعالج الذي لم يحتمل الانتظار وجاء مهرولًا ليزف إلينا ذلك الخبر، لن أنسى جملته أبدًا، كانت هي الفارقة بين الحياة والموت.

«يا بني أبشر، لقد انتصرت على عدوك، وفزت في الحرب، وأخيرًا انتهت المعركة»

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *