قصص

جُرْم

ابتهال أشرف محمود

بين صالات العرض لمحت طيفًا خفيًا لشخص، لم أعره كل الانتباه لكن مع دوى صرخات التفتت، رأيت طفلة في عمر الزهور تقف وتمد يدها لي وكأنها تستنجدني، ظللتُ كالحائر اتلفت يمينًا ويسارًا، أما من نجدة؟ لكن كانت حركة السير عادية، لا أحد يلقي بالًا بزهرة الربيع تلك، تحركت داخلي مشاعر المسؤولية فاتجهت نحوها قائلًا بلهجة لطيفة: ما بكِ زهرتي هل تودين مساعدة؟
تشبثت بقميصي وكأنها تتشبث بقارب في أمواج البحر قائلة بنبرة خائفة: ساعدني، سيقتلني
فاجأتني بمسكتها ونبرتها الخائفة لكن ما فاجأني أكثر قولها: سيقتلني، قتل؟ ولتلك البريئة؟ قاطع تفكيري صوتها وهي تهزني بخوف وتنظر بارتعاب إلى شيء خلفي ودموعها تتساقط قائلة: أسرع يا عمي لنغادر من هنا
مسكت كتفيها ونزلت إلى مستواها قائلًا بود: زهرتي الجميلة ما اسمك؟
لا أعرِف لِمَ صُعِقت عندما لفظت اسمها ولا أعرف لِمَ ناديتها أصلًا زهرتي لكن عندما لفظت لي اسمها أقسم أن قلبي دق بعنف
زهرة، كان اسمها زهرة.

في مركز للتحاليل، دلف شاب في منتصف الثلاثينات يبحث بعينيه عن شيء معين حتى وجده، فاتجه ناحية مكتب المدير

تنحنح مازن قائلًا: أريد رؤية مريم
نظرت له السكرتيرة كمن تنظر إلى مجنون قائلة وهي تشير بيدها إلى مقعد: تفضل بالجلوس حتى يأتي دورك

مازن : لا، أنا لست مريضًا، فقط أريد مقابلتها الآن
نظرت له بنفاذ صبر قائلة وهي تشدد على كل كلمة: تفضل بالجلوس حتى يأتي دورك

مازن باندفاع: بلغيها فقط أن الأمر يخص زهرة

نظرت له بملل ودلفت للمكتب

أخذ مازن يطرق بيده على سطح مكتب السكرتارية بتوتر ثم فُتِحَ باب الغرفة ظن أنه سيجد تلك السكرتارية البدينة لكنه وجد فتاة شابة ، اندفعت نحوه قائلة: سالي أخبرتني أنَّ لديك شيء يخص زهرة
مازن وقد سبح في عينيها الزرقاء: مَنْ سالي؟
مريم وصدرها يعلو ويهبط تنتظر أي معلومة عن اختفاء زهرة: السكرتارية أخبرتني أن لديك ما تقوله بشأن زهرة

مازن وقد أفاق من خدر عينيها: نعم نعم، ثم تنحنح قائلًا: أحتاج لمقابلة مريم ولكن السكرتارية منعتني و….
قاطعته قائلة: أنا مريم
مازن بذهول: نعم، كيف لم انتبه الشبه واضح.
مريم: هل ..هل قابلت زهرة، ثم تجمعت الدموع في عينيها قائلة: أرجوك ماذا لديك بشأن زهرة

مازن معنفًا نفسه لتصرفه ذاك: غبي، ثم استعاد رباطة جأشه قائلًا: سأخبرك بكل ما أعرفه سيدتي لكن أولًا حدِّثيني عن ذاك اليوم الذي اختفت فيه وأرجو منك تذكر كل معلومة

تراجعت مريم ساندة رأسها للحائط في يأس فقد ظنت أنه وجدها أو على الأقل عرف شيئًا عنها

مازن بلطف: أرجو منكِ أن تثقي بي وتخبريني

شردت مريم وبدأت في قصِّ كل ما حدث يوم اختفاء زهرة.

دوت ضحكات بريئة في ذاك المنزل البسيط في حي من أحياء الجيزة

مريم وهي ترتدي حقيبتها: هيا يا زهرة لم يعد هناك وقت السائق أوشك على الحضور لاصطحابنا

زهرة وهي تجري بين الألعاب الملقاة على الأرض: اذهبي وحدك لا أريد

كانت مريم تهم بتناول شطيرتها عندما سمعت تلك الجملة من أختها تركت ما بيدها واتجهت نحوها قائلة بعصبية: عفوًا منك سيدة زهرة هلا تفضلتي بإرتداء ملابس المدرسة لنذهب

زهرة ببراءة وهي تنظر إليها: لا، لن أتفضل

مريم: آه منك زهرة ثم جذبتها من أذنها

زهرة وهي تحرك يدها في الهواء: لا، أتركيني أمي أمي

مريم: اصمتي لا أريد سماع صوتك وهيا لنذهب

جاءت الأم على صوت بناتها قائلة: بضجر وهي تعقد ساعديها: ما الذي يحدث هنا؟

مريم بدفاع عن نفسها وهي تشير على زهرة: زهرة لا تريد إرتداء ملابس المدرسة أمي وأنا تأخرت

أخرجت لها زهرة لسانها

الأم: زهرة تأدبي مع أختك

تأففت زهرة قائلة بملل: لا أريد الذهاب هل الجملة صعبة إلى تلك الدرجة؟

مريم: انظري إلى تصرفاتها أمي وكأنها طفلة

زهرة وهي تخرج لها لسانها: أنا بالفعل طفلة

مريم محاولة إغاظتها: والأطفال يذهبون للمدرسة

همت زهرة أن ترد عليها لكن قاطعها صوت الأم قائلة بحزم: ولا كلمة، واستعدي للذهاب

زهرة: ولكن أمي…

الأم وهي تنظر لساعة معصمها: زهرة أمامك عشر دقائق وأجدك مستعدة

ضربت بقدميها الأرض وذهبت لتغيير ملابسها استعدادًا لأول يوم في المدرسة.

ذهبت زهرة مع مريم إلى مدرستها وأوصلهم السائق، كانت زهرة في الصف الرابع الابتدائي ومريم في الثاني الثانوي
في طابور المدرسة

زهرة وهي تنظر لمريم بغل: ألم يكن من الأفضل الآن التواجد مع ألعابي في البيت أستمتع بدلًا من الوقوف بلا طائل هكذا

مريم وهي تبتسم لها بسخرية قائلة: لا تقلقي ستنتقلي الآن من مكانك الذي لا يعجبك إلى مكان أسوأ

زهرة بتعجب: لم أفهم

أشارت لها مريم إلى نقطة ما خلفها قائلة: المدير

نظرت زهرة إلى حيث تنظر مريم وفغرت فاهها بصدمة: يا إلهي ما هذا

لم تقوى مريم على كتم ضحكتها أمام رد فعل زهرة فخرجت منها ضحكة وصلت إلى مسامع المدير.

في مكتب المدير….

وقفت الفتاتان أمام المدير ونظرهما في الأسفل
المدير بغلظة: هل من الأدب رفع الصوت بالضحك أمام الكبار

قالت مريم وعيناها تدمع: لمْ أقصد حضرة المدير

ونظرت زهرة إليه بعدم اهتمام

المدير وهو يرفع صوته ليبعث الرعب في نفسيهما: سأتصل بولي الأمر ليرى رأيه في ذاك الموضوع ومد يده ليمسك سماعة الهاتف

هنا تكلمت زهرة قائلة بعفوية: هل ذاك الشارب حقيقي؟

رمشت مريم بعينيها وصدمت من وقع السؤال قائلة في سرها: تلك الزهرة ستجعل مصيرنا في عداد الموتى

قام المدير بهيئته الضخمة التي من المفترض أنها تبعث في النفس وقارًا لكن ذلك لم يكن رأي زهرة التي ضحكت وهي تشاور على بدلته قائلة: من أين لك بهذه البدلة المضحكة

كان المدير يرتدي بدلة من الطراز القديم لونها أسود قاتم ومخططة بالأبيض وإذا رفعت نظرك قليلًا ستجد شاربًا كبيرًا يغطي فمه، آلان ارتفع بنظرك إلى عيناه وستراها تستشيط غضبًا
المدير بلهجة غاضبة هزت أرجاء الغرفة: خذوا هاتان الصغيرتان إلى فصلهما ولا أريد أن تقع عيناي عليهما

همَّت زهرة بإلقاء سؤال آخر لولا يد مريم التي جذبتها لتنطلق مسرعة بها نحو فصلها

زهرة وهي تحاول أخذ نفسها: هههه لا أستطيع ههههه أرأيت شكل شاربه ووجهه أحمر، كان يبدو كمستر سلطع في كرتون سبونچ بوب هههههه

مريم وهي تقف أمامها واضعة يدها في خاصرتها قائلة بنفاذ صبر: زهرة أتضحكين؟ لقد أوشك أن يلتهمنا، ثم أمسكت يدها قائلة بحزم: هيا بنا إلى فصولنا وزهرة خلفها تضحك ملأ قلبها.

هل يظل البحر هادئًا أم أن الأمواج ستعلو برهة ًودون سابق تحذير؟

مرَّ موقف المدير على خير واعتذرت الأم له قائلة: إنهم أطفال لا تؤاخذهم، لكن على العكس تماما في البيت…

الأم بلهجة غاضبة: لا أريد لذاك الموقف أن يتكرر ثانيًا أو أي شيء مشابه، ثم رفعت إصبعها محذرة: مفهوم

مريم: حاضر أمي

زهرة: ولو أن الأمر لا يستحق لكن مفهوم يا أمي

الأم: آآخ منك زهرة لا تنفكي عن المشاغبة

وضعت الشيكولاتة في فمها ورفعت كتفيها وهي تتناول الحلوى بسعادة

في إحدى الأيام المدرسية خرجت زهرة كعادتها مع أختها مريم للذهاب الي المدرسة، ذاك اليوم لم يحضر السائق لظرف لذا تماشيا حتى الوصول للمدرسة

زهرة بهدوء: مريم أنا أحبك

مريم وهي تنظر لها متعجبة: وأنا أيضًا أحبك، لم تستطع مقاومة فضولها فسألتها قائلة: ما مناسبة الهدوء الذي نزل عليكِ فجأة؟

زهرة وهي تبتسم لها ابتسامتها البريئة: أأصارحك بشيء، أشعر أنني سأحلق بعيدًا كالفراشة ولن أراكم، حتى في الصباح لم أناهد أمي كثيرًا؛ لأرحل وهي راضية، ثم عادوت النظر لمريم قائلة: سأفتقدك عديني أن تهتمي بأمي

لم تشعر مريم بنفسها إلا وهي تجذبها داخل أحضانها، قائلة ودموعها تتساقط: ما هذا الكلام يا زهرة ومن أين أتيتي به، سنعتني بأمنا معًا

زهرة وهي تمسح دموع مريم: فقط عديني

مريم وهي تهز رأسها بإيجاب ودموعها مستمرة في السقوط: أعدك زهرة، أعدك

غادرتني زهرة في ذلك اليوم كالفراشة بلا رجعة، كنا وقتها خارجين من الفصل، كان وقت الإنصراف، أخبرتها أن تسبقني بالنزول وتنتظرني، لكنها لم تنتظر كثيرًا إذ رحلت.


في نهاية اليوم…

مريم وهي تحادث صديقاتها: لحظة يا مي، ثم ذهبت ناحية زهرة قائلة: انتظريني بالأسفل زهرة سأتم البحث معهن وألحق بك، والتفتت مغادرة قائلة: لا تغادري لوحدك

زهرة منادية عليها قائلة: مريم انتظري

مريم بتعجب: ماذا هناك

لم تجيبها زهرة بل ركضت ناحيتها واحتضنتها بشدة

مريم بقلق: زهرة لا تقلقيني هل هناك شيء تودين إخباره لي

هزت زهرة رأسها علامة النفي وقبلتها على وجنتيها قائلة: سأنتظرك بالأسفل

مي: هيا يا مريم كي لا نتأخر

ترددت مريم في الذهاب، فابتسمت زهرة لها مطمئنة

وكانت هناك عيون تراقب الموقف بالكامل وإن صح التعبير فسيكون: تراقب كل شيء منذ البداية.

بعد يومين في قسم الشرطة…

الأم بضعف: كيف إلى الآن لم تجدوها

الظابط متعاطفًا: لا أثر لها، آخر من رآها كان حارس المدرسة وأخبرنا أنها ذهبت بنفسها إلى العربة السوداء التي كانت تنتظرها في الخارج وتتبعنا كاميرات المراقبة لكن العربة دخلت في أحد الأزقة ولم يظهر لها أي أثر بعد ذلك.

الأم بعصبية: كيف ستذهب بإرادتها هي لا تعرف أحد، ثم انهارت باكية قائلة: مريم هي الوحيدة التي توصلها

مريم بعد صمت طال: لستُ الوحيدة أمي

رفعت الأم نظرها إليها بدهشة، استغل الظابط تفوهها بالكلمة ليستدرجها في جمع المعلومات فمنذ أن اختفت زهرة ومريم تنظر للاشيء ولا تتحدث

الضابط: أخبريني مريم هل تشكين في أحد

مريم بنظرات متجمدة: لا

الظابط: لكنك قلتِ أنك لست الوحيدة فماذا قصدتي بتلك الجملة

مريم وهي تثبت نظرها إليه: لستُ الوحيدة التي أوصل زهرة، هناك السائق و.. لم تقوى على الإكمال فاستحثها الظابط قائلًا: أي كلمة تخبرينا بها قد تساعدنا في إيجاد زهرة

مريم وهي تنظر له بدموع تقطع نياط القلب: أتعدني

أُخذ الظابط فقال: أعدك بماذا؟

مريم: أن تجد زهرة، أعِدها لنا، ثم أكملت ببكاء: أرجوك

وأغشي عليها وكان آخر ما سمعته صرخات والدتها فزعًا.

في إحدى الغرف بمستشفى الزهراء الجامعي، كانت ترقد على سرير المستشفى، تنظر لسقف الغرفة بشرود، قاطعه صوت الممرضة وهي تدلف قائلة بابتسامة: أميرتنا استيقظت أخيرًا، هيا لنتناول الفطور، وجهت مريم نظرها إليها مما جعل الممرضة تتعجب وزاد تعجبها حينما باغتتها مريم بسؤالها: ماذا سأحقق نفعًا إن تناولت الفطور
ردت عليها بابتسامة قائلة: ستستعدين قوتك لأن والدتك بحاجتك، بالتأكيد رؤيتها لك بتلك الحالة لا يسعدها
هزت مريم رأسها وشردت وهي تقلب طبق الفطور أمامها وتشرع في تناوله.

كانت تقف كالزهرة في مهب الريح، تنتظر مريم، لكن كانت الريح غادرة فأذهبت رحيقها.

زهرة بملل: لقد تأخرت مريم أووف
حارس المدرسة وهو يسير بجانبها متجهًا إلى المرحاض لغسل يديه وملابسه فقد أسقط أحد المارين القهوة عليه فاتستخت ملابسه: زهرة! إلى الآن لم تغادري
زهرة بمزاح: إنها مريم يا عم مسعد تتأخر في عمل أبحاثها

عم مسعد مبتسمًا لها بود فهي تذكره بابنته التي توفت قبل عام في حادث مرور قائلًا: حفظكِ الله يا زهرة ثم دلف إلى المرحاض

بادلته الابتسامة البريئة ثم لفت نظرها دكان لبيع الحلوى في الشارع المقابل وكانت قد أدخرت من مصروفها، فأسرعت إليه وطلبت شوكولاتة وهي تمد يدها له بالنقود في براءة
نظر لها صاحب الدكان وهو يتفحصها بنظره قائلًا لها: من أي مدرسة أنت ِ يا حُلوة؟

زهرة بعفوية وهي تشير على باب مدرستها: من مدرسة….

صاحب الدكان وهو يعطيها حلوى إضافية: ما رأيك أن تأخذي تلك الحلوى أيضًا

زهرة واضعة يدها على جبينها تفكر ثم سألته قائلة ببراءة: لكني لا أملك ثمنها

ضحك صاحب الدكان قائلًا: هي لكِ بالمجان

أخذتها زهرة وذهبت مسرورةً بها.

وبعد عودتها لنفس المكان التي كانت تقف فيه خرج حارس المدرسة من المرحاض.


في بيت زهرة…

مريم بيأس: فقط هذا كل ما أعرفه

الأم وهي تجهش بالبكاء: لِمَ لَمْ تخبريني قبلًا يا مريم؟

الظابط بذكاء: إذًا يا مريم والدك كان يوصلكما كل يوم مع السائق بل إنك سمعتيه أيضًا وهو يقول له أنه كما كان السبب في إحضاره فيستطيع أن يكون السبب في طرده

هزت رأسها بإيجاب وقد فقدت كل معاني الحياة

الظابط وهو ينهض مصوبًا نظره للأم: أحتاج إلى الحديث معكِ على انفراد

أشارت له الأم الي غرفة الصالون وتابعتهما مريم بعينيها ثم بقدميها، فهي تحتاج الي معرفة كل ما يخص زهرة.

الظابط وهو يجلس واضعًا عدة صور على الطاولة التي تنتصف الغرفة: هناك أربعة مشتبه بهم في قضية اختفاء زهرة، لا أريد أن أصدمك سيدتي لكن زوجك أحدهم

الأم بنرفزة وأعصابها على وشك الانهيار: لا تقل زوجي، هو طليقي ووالد بناتي غير ذلك فلا.

الظابط محاولًا امتصاص غضبها: نعم سيدتي، طليقك أحد المشتبه بهم في قضية اختفاء زهرة.

وكأن تلك الجملة لأول مرة تسمعها، شهقت الأم واضعة كفيها على فمها ودموعها تتساقط قائلة: ك..كيف؟ هي ابنته

كان ذاك أثر الكلمات على أمي فما بالك بي، سمع الظابط وأمي صوت ارتطام بالأرض وكان ذاك صوت سقوط جسدي ومعه سقوطي.

كانت كغزال بريئة في منطقة الصياد
استبشرت زهرة عندما رأته قائلة: أبي! وجرت ناحيته فرحةً، الأب وهو يرفعها من على الأرض محتضنًا إياها: نعم ذاك أنا زهرة

زهرة بحماس: هل ستوصلنا اليوم؟

الأب وهو يضحك: أتريدين مني توصيلك لأنك تحبيني أم لأجلب لكِ الهدايا؟

ضحكت زهرة ببراءة قائلة: سأختار الاثنين ثم طبعت قبلة على جبينه

الأب بهدوء وهو يبتسم لها: أين مريم؟

زهرة وهي تشير بيدها للأعلى: في الفصل تكمل بحثها مع مي صديقتها

الأب مؤكدًا: نعم، ثم تساءل قائلا: مللت ِمن الوقوف وانتظارها أليس كذلك؟
زهرة وهي تمسح حبات عرق عن جبينها: نعم والشمس لا تريد إلا أن تسطع فوقي

ضحك الأب قائلا: ما رأيك بجولة مع عم….

أفاقت مريم من شرودها عند تلك النقطة كانت وقتها ذاهبة إلى معمل العلوم واستمعت للحديث الدائر بينهما، لن تنكر أنها تعجبت وقتها من مجيء والدها بل ودخوله المدرسة، فكيف سمح له الحارس؟ إلا أنها لم تعر الأمر انتباهًا كافيًا بسبب انشغالها في البحث وذهبت، ياليتها توقفت حتى تستمع إلى بقية الجملة وتعرف أين ذهب والدها بزهرة، وهل عم مسعد معهم في تلك الجريمة؟

دخل الظابط الغرفة وخلفه الأم قائلة بلهفة: مريم حبيبتي هل أفقتِ؟ الحمد لله الحمد لله خفت كثيرًا عليكِ

مريم بدموع: أتعرفين أمي ما آخر شيء وصتني عليه زهرة؟

لم ترد الأم إذ سقطت دموعها أكملت مريم مسترسلة قائلة ً: أخذت مني وعدًا أن أعتني بك

جثت الأم على ركبتيها ضامة كفيها إلى وجهها، نهضت مريم ووقفت بجوارها قائلة بقوة لا تعرف من أين حصلت عليها: زهرة لم تعد موجودة أمي وأنا من سأعتني بكِ كما وعدتها

نظرت لها الأم قائلة: كيف تقولين أن زهرة لم تعد موجودة؟ مريم لن نفقد الأمل في إيجادها

نظرت لها مريم بنظرات خالية من اي مشاعر ولم تنطق بحرف بل وجهت نظرها للظابط قائلة بثبات: لن أترك حق زهرة سأنتقم من كل من كان السبب في إضمار رحيقها.

الظابط بثقة: أنتِ لستِ طفلة مريم ومن حقك معرفة آخر التفاصيل وحق زهرة سيرجع.

كادت الأم أن تقول شيء لكن قاطعها صوت طرقات على الباب، وظهر عم مسعد حارس المدرسة.

الظابط مستغربًا من مجيئه و قد عرفه فقد استجوبه قبل ذلك: عم مسعد! أهلًا بك، ياللمفاجأة

عم مسعد وملامحه توشي بندم: جئت أطمئن على مريم وأخبرك بشيء لم أذكره في التحقيق خوفًا من اصطحاب اسمي في القضية، لكن ضميري لم يسكت عن تأنيبي

كانت ملامح مريم متجمدة ونظراتها فقط نحوه وكأنها تحاول قراءة ما يخفي خلف قناع وجهه، هي اعتبرته مشتبهًا به في قضية اختفاء زهرة

الظابط: قل ما في جعبتك يا عم مسعد

عم مسعد وهو ناكسٌ رأسه: عندما كنت أحرس البوابة وفي يدي كوب القهوة إذ انسكب عليّ بفعل فاعل، فتوجهت إلى المرحاض لأجففه، وقتها خرجت زهرة إلى دكان قريب من المدرسة ورجعت وفي يديها حلوى كثيرة، حذفت الجزء الخاص بذاك الموقف لانني لم أرد يومًا أن أكون سببًا في أذيّة طفلة كزهرة، ثم أجهش بالبكاء قائلًا: كان لدي طفلة بعمرها توفت منذ عام في حادث سير، رأيتها في زهرة.
بكت الأم لبكائه بينما وقف الظابط ينظر له محاولًا معرفة أصادقٌ هو؟ اما مريم فما زالت نظراتها مصوبة ناحيته في ألم

مسح دموعه مكملًا: جئت اليوم أخبركم بهذا ومعي شريط الفيديو الذي يثبت ما أقول فأنا أعلم أنني الآن متهم.

قال الظابط بلهجة عميقة مفكرًا: إن كان ما تقوله صحيحًا فقد وضحت خيوط الحقيقة.

أمام محكمة القضاء…

القاضي: رفعت الجلسة!

اصطحب الظابط الأم ومريم إلى خارج المحكمة وقال…

الظابط: من كان يصدق أن وراء اختفاء زهرة عمل محكم وفي غاية الدناءة كهذا، اتفق الأب مع السائق بأخذها من أمام المدرسة وتوصيليها لمكان مجهول وهو يعلم مسبقًا أن مريم ستتأخر وكذا دفع مبلغ لصاحب الدكان ليشترك معهم في ذاك الجرم بإعطائها حلوى بها مخدر؛ لذا كان عم مسعد صادقًا إذ قال أنها توجهت إلى السيارة بإرادتها وذاك لأنها رأت السائق فحسبته جاء لتوصيلها؛ لذا استحق السائق والوالد وصاحب الدكان السجن عامين، بينما عم مسعد اعترف أنه من سمح لوالد زهرة بالدلوف داخل المدرسة وكذا بقصة حلوى الدكان فقادنا لمعرفة المجرم، لذا سيدفع تعويض مالي، لكن مالا أفهمه رغم شهادتك بما رأيته يا مريم أثناء نزولك لمعمل العلوم وما سمعته وشهادة عم مسعد والفيديو الذي جاء به إلينا، ما الدافع؟ أنكر والدك وصاحب الدكان والسائق تلك القصة واعتبروها ملفقة من عم مسعد وادعوا أنهم ظُلِموا وأنهم الضحية لا الجاني، لذا قيدت القضية ضد مجهول وبقى مصير زهرة مجهولا!

مريم وهي تلتفت لتغادر ممسكة والدتها تساندها: ليست الأمور كما هي على ظاهرها حضرة الظابط وما من جريمة كاملة.

مسحت بأناملها آثار الدموع على وجهها قائلة: هذا كان آخر شيء وصل إليه الظابط لكن بقيت القضية ضد مجهول، ثم أكملت: ما يؤلمني حقًا أنني بقيت أبحث عنها كل ذاك الوقت لكن لم أجد أي شيء، اختفت زهرة ولم تعد موجودة، ضمت كفيها إلى وجهها وهي تبكي

مازن وهو يضع يده على كتفها قائلًا: زهرة لم تختفي يا مريم، ثم سكت قليلًا وتابع: بل قُتِلت.

الحقيقة ليست ما تُروَى بل ما تُشاهَد

وقفت زهرة تنتظر مريم في المدرسة، كان الجميع قد غادر ولم يبقى إلّا زهرة وفتاتان في رياض الأطفال، اتجه عم مسعد نحوها قائلا بطيبته المعهودة: لِمَ لم تغادري بعد يا زهرة؟

زهرة بابتسامتها البريئة: مريم يا عم مسعد أنتظرها حتى تنهي بحثها

عم مسعد: أود سؤالك عن شيء ما رأيك أن ندردش قليلًا

زهرة بحماس: بالتأكيد يا عم مسعد أي شيء يكسر هذا الملل

عم مسعد: نبدأ بسؤال بسيط من يوصلك إلى المدرسة؟

زهرة بعفوية: السائق الذي أحضره والدي ووالدي يركب معنا يقول أنه اشتاق إلينا وإلى الجلوس معنا لكن أمي ترفض عودته، أجل ومريم أيضًا تأتي معنا هم من يوصلوني دائمًا

عم مسعد بخبث: إذًا والدتك لا تعلم أنه يوصلك وأنه من أحضر السائق

زهرة: نعم فقد أخبرنا أبي ألا نقول لها شيء حتى لا تحرمنا من مقابلته

عم مسعد: أنت ِ فتاة مطاوعة زهرة لذا أحضرت لكِ مفاجأة

زهرة و عيناها تلمع: ما هي، أنا أحب المفاجأت

عم مسعد: أولا تذهبين إلى ذاك الدكان فأنا اتفقت معه أن يعطيكِ حلوى كثيرة ووصفتك له ثم ستعودين هنا وستجدين أباك ِ

زهرة: يييييي عم مسعد أنت رجل طيب، ثم تابعت بحزن لم يلحظه: كابنتك

عم مسعد وهو شارد: نعم كابنتي، ثم دفعها بخفة قائلًا: هيا الحلوى تنتظرك

ذهبت زهرة وأخذت الحلوى من الدكان لذا التقطتها الكاميرات ثم عادت وحادثت والدها في نفس الوقت الذي مرت به مريم فرأته، بينما هو بالأصل أتى لأن عم مسعد اتصل به وأخبره أنه سيصطحب زهرة المشفى إلى والدتها وأن عليه إيصال مريم لذا أراد توديعها والاطمئنان عليها وكانت بقية الحديث الذي لم تسمعه نيرة…

الأب: هيا زهرتي الحُلوة عم مسعد سيصطحبك

زهرة وهي تحتضنه: حسنًا أبي، لكن ماذا عن مريم؟ هي قالت لي ألا أغادر من دونها

الأب وهو يحتضنها: نعم حبيبتي سأوصلها أنا

زهرة بعفوية: حسنًا وداعًا أبي

وقد كان الوداع الأخير


مازن بألم: اصطحبها عم مسعد الي بناء قديم والذي هو الآن مجمع صالات العرض وهناك قتلها بلا رحمة، قتل زهرة بريئة لأنها كانت تلعب مع ابنته وقت الحادث لكن قُدِر ألا تَمُت زهرة بل ماتت ابنته وهو ظن أن زهرة هي الفاعلة.

مريم والدموع في عينيها: هل زهرة أخبرتك بهذا؟ ثم إنها بالأخير طفلة! هل تؤاخذ بجُرم لم ترتكبه؟

أومأ برأسه متنهدًا وقال: وطلبت مني البحث عنكِ

الآن بات كل شيء واضحًا غير معقول
لفظت مريم تلك الجملة وقد شحب وجهها قائلة: إذًا عم مسعد من دبر كل تلك الجريمة، هو من قتل زهرة، ل..لكن ما ذنبها ثم تابعت بسخرية: يا لسخرية القدر!

مازن بألم وهو يتذكر ذاك الطيف الذي أتى إليه وهو في صالات العرض يستنجده كانت تلك زهرة تطالب بحقها وإن مرت سنوات: علينا أن نفتح ملف القضية مرة أخرى لتأخذ زهرة حقها

مريم بأسى: ليس لدينا دليل كافي هل ستذهب لتخبرهم أن قضية اختفاء زهرة التي قيدت ضد مجهول ستفتح بعد مرور كل هذه السنوات؛ لأني رأيت شبح زهرة و أخبرتني أن عم مسعد قتلني هنا بلا رحمة، وستجدون جثتي تحت أنقاض هذا المبنى؟ من سيصدقك؟

مازن متشبثًا بأمل: سيحفروا ليجدوا الجثة وأؤكد كلامي

مريم وهي تخفض رأسها ودموعها تتساقط: وهل سيهدموا صالات العرض لأن شاب في الثلاثينات أخبرهم أنه رأى خيال طفلة قتلت بلا رحمة وهي تطالب الآن بحقها

لم يقدر مازن أن يجادل فقد كان ما تقوله هو فعلًا الحقيقة، لن يصدقه أحد، لن تدفن زهرة وستظل قضيتها ضد مجهول
مازن بغضب: يجب أن يُحاكم عم مسعد ويعترف بفعلته، أين أجده يا مريم

مريم وهي تبتسم بسخرية قائلة: أتعرف كيف مات عم مسعد

مازن بدهشة: مات!

مريم وهي تكمل شاردة: وجدوه بأبشع خاتمة، كان ذلك منذ عامين كنت هنا أشرف على بناء معمل تحاليلي وأخبرني عم مسعد أنه يعلم مهندس بناء جيد، آتي معه إلى هنا وكنا بالأعلى وهو ينتظرنا بالأسفل، ولكن أثناء انتقال أسياخ الحديد سقطت من علوها لتستقر في جسده

مازن بتشفي: لم يضيع حقك يا زهرة وها هو مات أبشع موتة بل وعقابه عند الله أشد، ثم أكمل متسائلًا: لكن كيف سقطت لابد أن تنفك السلاسل بفعل فاعل؟

مريم بابتسامة ساخرة ودموعها تتخذ مجرى على وجنتيها: وعدت أمي أنني سأنتقم من كل من كان السبب في إضمار رحيق زهرة

ثم أرجعت رأسها للخلف قائلة: أنا من قتلته

بعد نفاذ كل طرق المحاولة حتى أساليب العدل لم تجدي نفعًا وحُكِمَ المظلوم وبُرِئ الظالم، بقى الطريق الوحيد لأخذ حقي هو الجُرم

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!