ابداعات

يونس “عشرة شمال”

ناجي شاهين

يقول طبيبي النفسي إنه إفراط في تعاطي “الماريجوانا” أدى إلى انفصال عن الواقع، حالة لم يقابلها إلا بين طيات الكتب؛ حيث يشعر المريض أنه ينظر إلى ما يحدث حوله كأنه يشاهد العالم من شاشة، يرى نفسه ومن حوله وكأنه ينظر إلى المشهد من زاوية جانبية.

هناك على مقهانا المعتاد جلست وصديقي على التراس المطل على النيل الذي يعكس زرقة السماء التي يتخللها بعض السحب الأرجوانية، منفصل عن واقعي لا يدرك معاناتي حتى ذلك الجالس بجسدي مقابل صديقي.

أقول لك أنني أشعر أن كل شيء مائل إلى اليسار قليلًا.

قلت كلماتي وأنا لا أنتظر من صديقي ردًا، فأنا لم أرغب حقًا في إخباره، ولو أردت أن أخبره حقًا لأخبرته باللغة الوحيدة التي يجيدها -لغة الإشارة- حتى أنه استفسر عما أقول ببعض إشارات من يده، فأجبته بمثلها أن “لا شيء” ولكن الحقيقة أنه دائمًا يوجد شيء، دائمًا يوجد ما أرغب في قوله ولكن الجميع سيظن أنني مجنون إذا قلته.

عملت كمهندس مساحة لمدة خمس سنوات خلت، وعندما أقول أنني أشعر أن كل شيء مائلًا نحو اليسار قليلًا، وتحديدًا عشر درجات نحو اليسار فيجب أن تصدقني، فخلال خمس سنوات عملت فيها في ذلك المجال ساعدت في تشييد مدينة كاملة بطرقها وكباريها ومبانيها وجميع مرافقها، فلو أنك تكذبني الآن وتظن أنني مجنون، فانظر إلى ما صنعت يداي تجده صامدًا، ولو كنت تعرفني لما يزيد عن العشر سنوات ستعرف كم أنا دقيق، دقيق كفاية لتوقن أنني محق.

وأنا في طريقي لمنزلي الكبير الذي لا يسكنه سواي عائدًا من عملي الذي تم طردي منه مؤخرًا في صورة إجازة لحين استرداد عافيتي التي أظن أنها لم تتركني، ولكنه مجرد قرار من رئيسي في العمل الذي لم تعجبه طريقة إدارتي لعملي، رأيت تلك الفتاة الصغيرة التي تشي ملامحها بما لم يستطع لسانها البوح به، ليست من تلك البلاد ملامحها تقول أنها من تلك البلاد التي حدث ضدها التعسف ممن يسمون أنفسهم أبناء البلد، ولو أنهم أبناءها حقًا لما هجروا إخوانهم إلى كل حدب ينتظرون من يمن عليهم بكسرة خبز.. وفجأة اهتز عالمي كما حدث منذ عدة أيام وشعرت بكل شيء حولي يميل عشر درجات أخرى نحو اليسار، على هذا المنوال سينقلب كل شيء رأسًا على عقب.

الآن أشعر بدوار يتملك رأسي، فلا تكاد مشاعري تلتقط شيئًا سوى الألم المسيطر على كياني والناتج عن الصداع المستمر المخيم على رأسي، الآن كل شيء منقلب رأسًا على عقب، الناس حين تسير في الشارع تمشي على رؤوسها، وتتبخر قطرات المطر لتتصاعد للسماء، وكأن الشتاء يعيد ما أعطاه لنا من أمطار فنحن حتمًا لا نستحقها، الجميع متمسك بصلابته فترى الناس كالجلاميد ويجب أن يكونوا، فمن يسقط الآن لا قومة له، الناس تتطاير نحو السماء كلما سقطوا والله يشهد أنه لا يسقط سوى الطيبين ولا يتبقى سوى شرار الناس، وأغرب ما يحدث أنه لا أحد يشعر بما يحدث كأن ما أراه طبيعيًا.

ظل الجنون يسيطر على عقلي وما تراه عيناي حتى رأيت رجلًا ممسكًا بالفتاة الصغيرة -التي خذلها أبناء جلدتها- ويعطيها بعض الملابس وكسرة خبز، وكأن عالمي رق لما رأى فاعتدل عشر درجات نحو اليمين، صعقتني الصدمة فأخذت أصرخ بين الناس مهرولًا:-
صدقوني قد نستقيم من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة هافن HAVEN Magazine
Powered by Mohamed Hamed
error: Content is protected !!