خواطر

يونس “الروتين اللعين”

ناجي شاهين

على مدار تسعة وعشرين عامًا من الإخفاق، كان ذلك إخفاقي الأكبر.. تسعة وعشرون عامًا وماذا؟ أنا الآن أعمل “كاشيرًا” في محل غير ذائع الصيت، أي لا منزل ولا عمل حقيقي وبالطبع لا مستقبل، كقطعة من الفلين المغطاة بالقذارة التي تركتها أصابع طفل صغير لا ينفك يلعب بالطين حتى تحولت يديه لكتلة من الفحم اللزج، وما إن انتهى حتى قذفها في النهر، فلا هي تطفو كقطعة فلين عادية ولا هي تغوص نظرًا لما علق بها من الطين، ولا الرياح تتركها على السطح في سلام دون تقاذف.

ولا أخفيك سرًا، كنت أشكو من الروتين مثلك تمامًا، فيبدو أنك بعد عدد معين من الإخفاقات تفقد أي رغبة في تحريك إنشًا واحدًا من إرادتك، فيلتهمك الروتين شيئًا فشيئًا ويحولك إلى شبح، يتغذى على التبغ والكحول، يحطم كل يوم ضلعين ليس بسبب العراك -لاسمح الله- ولكن من كثرة النوم، نفس المقهى، نفس القصص، نفس المشاعر، نفس الهراء، نفس التوعك، نفس القلق، نفس الصداع ونفس برنامج “التوك شو” البغيض الذي تشاهده يوميًا.

جربت الانتحار، لا أخفيك سرًا.. أدنيَّ مني بعدُ أذِنك، “الموت غامق.. نعم غامق وبارد، أقول لك الحقيقة لقد مسست أصابع الموت أكثر من مرة”، لكن اتضح أنني أجبن من الاستسلام له، أخذت إجازة مرضية لأكثر من شهرين، ثم عدت إلى العمل لكي أستقيل ولحيتي تكاد تسقط على صدري، علامات الإدمان تشير إليَّ بأصابعها السوداء، الهالات السوداء أسفل عيني تفضحني وعظام وجنتي البارزة مرضًا لا وسامة تنفر الجميع مني، لأجدهم استبدلوني بفتاة حسناء المظهر، من النظرة الأولى عرفت أنها أجمل فتاة رأيتها على الإطلاق.

لم ألفت الإنتباه إليَّ، عدت مسرعًا إلى جحري الذي اُسميه زورًا منزلي وأنا أتلفت يمينًا ويسارًا حتى لا يراني المستأجر ويطلب الشهرين المتأخرين من الإيجار.

مر عامان لم أشعر بهما في روتين محبب وأنا أحاول إبهار صديقتي الجديدة وبديلتي السابقة، فبعد الروتين القديم الذي يتمثل في سبع كلمات “محاولات بائسة لإضاعة الوقت دون الغرق في الذكريات”، استولى عليَّ روتين جديد اسمه سهل من كلمة واحدة “انهض”.

بعد حياة تملأها الخيبات المتتالية، حصلت على أخرى بفرشاة ألوان جديدة، مددت يدي فوق يدها نرسم مستقبلًا جديدًا، لا أكون فيه نفس الفاشل الذي كنت عليه منذ عدة أعوام، أعطتني الحب وأعطتني ذلك الروتين المحبب.

أدخن تبغي ثم آكل أطنانًا من حلوى النعناع وأسكب قنينة “برفيوم” من النوع الذي يبدأ سعره بثلاثة أصفار، للتغطية على آثار جريمتي، مع أول حضن وقبلة تنظر عيناها الحادتين إلى عيناي المرتبكتين وتقول:

  • دخنت مجددًا!
    فأغير الموضوع بعناقٍ آخر، أو بعتابٍ واهٍ، لتعقب قائلةً:
  • الإسراف في الإختباء يجعلك تنكشف بسهولة.
    فلا يسعني سوى الإعتذار منها والتعلل بأن تلك كانت آخر سيجارة ولكن لم تكن.

نفس التبغ يوميًا ونفس الثرثرة اليومية على شرفة منزلنا ونفس برنامج “التوك شو” الذي يقدمه مذيع لم يتغير من أكثر من عشرة أعوام، مع تغير بسيط وهو أنها أصبحت روتيني الجديد وأنا أعشق روتيني الجديد!

كل ما أمر به حاليًا كان من الممكن ألا يحدث لو أنني لم أخفق في فعل وحيد من أفعال الماضي، كل ذلك الجمال والهدوء كان من الممكن ألا يحدث لو أنني حصلت على الفتاة التي أردتها أو الوظيفة التي تمنيتها أو حتى سافرت إلى ذلك البلد البعيد، لو عدت مرة أخرى لأرتكبت نفس الحماقات التي أدت بي إلى زراعيكِ يا حبيبتي.

كل ما أمر به الآن جعلني أدرك أنه عندما يتحول إخفاقك الأكبر إلى نجاحك الأكبر، حينها يصبح الروتين جميلًا.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!