ابداعات

الأوراق المُميتة

ابتهال أشرف محمود

“ما يؤلم الشجر ليس الفأس، ما يؤلمها حقًا أنَّ يد الفأس من خشبها”

صوت صرير الباب، أتبعه دخول فتاة في العقد الثاني من العمر تمتاز ببشرة قمحية مُشربة بحُمرة خفيفة على وجنتيها، دلفت إلى تلك الحجرة القابعة بنهاية الممر، كان صوت خرير الماء من ذاك الصنبور المتهالك، وتصادم قطرات الماء منه مع الأرض يضيف لديچور الليل نكهة الخوف، توجست خِيفةً قليلًا قبل أن تستجمع رباطة جأشها وتسير نحوه، بدا لها أن هناك ظلًا يتبعها سرت بجسدها قشعريرة، لكنها لم تعرها أي انتباه وهي تذكر سبب مجيئها، أو بالأحرى لم تكن تريد أبدًا الإلتفات للخلف.

هبة وهي تتفحص بعينيها المكتبة التي تقبع بجانب الصنبور: لابُد أن تكون تلك الأوراق في مكان ما هنا، ظلّت عدة ساعات تبحث في تلك الأوراق القديمة عن مبتغاها لكنها لم تجدها بعد، وبعد أن أنهكها التعب قالت أخيرًا وهي تمسح عرقًا وهميًا: ترى أين يمكن أن تكون؟

شردت هِنية قبل أن تطلق صرخة فزع على أثر ذاك الذي انتشلها من شرودها، بعد أن التقطت أنفاسها نظرت له بغيظٍ قائلة: أيها المشاغب الصغير
ضحك عُبيدة قائلًا: ما دُمتِ ضعيفة القلب هكذا ما الذي آتى بكِ إلى قبو جدي
تنفست الصعداء محاولة استرجاع نبضات قلبها بانتظام: جئت أبحث عن حاجيات قديمة، ثم تابعت وهي ترفع رأسها: ثم ما شأنك بالذي جاء بي
ابتسم أخيها ذو السبعة عشر عامًا وهو يقول عاقدًا ساعديه: أنا مسؤول عنكِ لحين عودة أمي
نظرت له شرزًا وتابعت خطواتها مبتعدة عن ذاك القبو المخيف، تابعها عبيدة وهو يجوب بناظره تلك الغرفة الواسعة التي بدت من كثرة الأوراق عليها كأنها مطبعة، أعاد سؤاله أثناء سيرهما في الممر المؤدي للسلم بالعلية وهو يطلق صفيرًا باستماع سائلًا هبة: ما الحاجيات التي تبحثين عنها بالظبط وسط كومة الأوراق هذه
التفتت بجسدها إليه وكادت تجيب عليه مغتاظة من سؤاله إلا أنها حملقت في ما ورائه بصدمة وهي تكتم بيديها شهقة كادت تخرج من فمها، تعجب لرؤيتها فالتفتت بدوره وانتفض متراجعًا للخلف، فما رآه لم يكن عاديًا أبدًا.

رمشت بعينيها مرتين محاولة فتحهما رُغم ذاك الضوء الموجه نحوها قبل أن تستطيع أخيرًا فتحهما، تأملت تلك الغرفة الشبيهة بقبو ضيق، لا يمكنك تمييز ماهيته إلا بإضاءة خافتة تشع من مصباح متهالك، قاومت شعور الغيثان الذي انتابها عند تذكرها للمشهد قبيل أن تفقد الوعي، كانت تنظر برعب لذاك الجسد الطويل الذي كان يسد بهيئته المخيفة الممر، لم يكن مخيف بالنسبة لها رؤيته فقد شعرت من البداية بظل يتبعها، لكن كان المرعب لها أن ذاك الجسد أطلق ضوءًا من عينيه، انهمرت دموعها وفقدت تماسكها تمامًا عندما جال ذاك الشيء المخيف برأسها، أرجعت رأسها للخلف ثم تذكرت مالم يكن في حسبانها، عبيدة كان معها! ارتجف جسدها بشدة وهبت واقفة إلا أنها شعرت بشيء يقيد حركتها، كانت هناك سلاسل ملتفة حول أساور يدها، أخذت تنادي باسمه بأعلى صوتها متأملة وجوده على قيد الحياة والأفكار البشعة تراود فكرها، كانا معًا قبل رؤيتها ذاك الجسد الذي يطلق ضوءًا من عينيه، هي لا تثق إن كان بشريًا أصلًا، ثم استيقظت ولا تعرف مكانه! إن أصاب أخيها شيء لن تسامح نفسها أبدًا؛ فهي الجاني الوحيد.

وسط تخبط أفكارها، سمعت صوتًا مألوفًا يقول لها: ما كان عليكِ أن تبحثي عمّا سبق ودُفِن
نظرت بصدمة إليه قائلة: أبي!
ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجهه قائلًا: إن صحّ التعبير سيكون زوج أمي، ثم اقترب بخطواته نحوها قائلًا: أُمك مازالت في الخارج لم تعد بعد
نظرت له بصدمة ألجمت لسانها قائلة: إذًا لقد كنت أنت
ابتسم بسخرية ملوحًا ببعض الأوراق قائلًا لها: أهذا ما تبحثين عنه، اعترافات والدك السخيفة
ظلت تقاوم ويداها مكبلتان تحاول الوصول للأوراق بيده، فتصنع الدهشة قائلًا: لا تستطيعين رؤيتها لأن يداكِ مقيدتان أليس كذلك؟
أطلق ضحكة عالية قائلًا: لا تحزني كثيرًا عزيزتي ستلحقين به قريبًا، ثم تابع بكل غل: هل تشمين هذه الرائحة، إنها رائحة الموت.

انتفضت من نومها على أثر دلو ٍ من الماء سقط عليها، شهقت وهي تسعل، فسمعت صوته يقول بضحك: تستحقين؛ حتى تيقظيني من نومي بهذه الطريقة ثانية
كان يتوقع منها هجومًا إلا أنها فور أن سمعت صوته تشبثت بعنقه قائلة بفرح: عبيدة أنت ما زلت حيًا؟
تعجب عبيدة قائلًا: وهل كنت ميتًا في حلمك أم ماذا؟
ابتعدت هبة عنه قائلة بفزع: ذاك ليس حلمًا بل كابوسًا
اشتعلت عيناه حماسًا وهو يقول: قصِّي عليّ
شردت قليلًا ثم قالت محاولة تغيير الموضوع: لِمَ تركتني نائمة هنا على الأريكة؟
ابتسم قائلًا: فور مغادرة أمي كان جدي معك هنا يحدثك بشأن أوراقٍ ما سألتي عنها، كنت أتحدث مع معتصم بشأن درس الأحياء فلم أنتبه لما كنتما تتحدثان عنه.

تنفست الصعداء واطمئنت لعدم معرفة أخيها بشأن قصة الأوراق تلك، تابع عبيدة قائلًا: خرجت لإلتقاط شبكة بالخارج فكما تعلمين المنطقة هنا معزولة وبالكاد نجد نطاق شبكة، أرجع رأسه للخلف متابعًا: فقط ذاك ما حدث، عندما عدت وجدتك نائمة على الأريكة، تسللت للمطبخ حاملًا كوب ماء، لن أترك فرصة كهذه تضيع دون مشاكستك.

منحته ابتسامة هادئة وشردت بذاكرتها إلى ذاك الوقت الذي سألت فيه جدها عن قصة تلك الأوراق التي سمعت والدتها تخبر زوجها عنها، أوراق اعترف فيها والدها بكل شيء، عن تجربته وأبحاثه والتي علمت فيما بعد أن نسبها زوج أمها له

ذهبت إلى مكتب جدها وأخذت تنظر له كثيرا، إلى أن قاطع تأملاتها قائلًا بابتسامة: هل وصلتي لشيء؟
اقتربت هبة منه قائلة: أنت إذًا من أعطاني تلك الحبوب المنومة أثناء حديثي معك
ابتسم لها قائلًا بوقار: كان عليكِ معرفة الحقيقة ولا سبيل لمعرفتها سوى وضعك في الخيال
قطبت جبينها قائلة: لِمَ تتحدث بالألغاز جدي
ظهرت ملامح الحزن على وجهه ورغم ذلك ابتسم قائلًا: بعد مقتل والدك لم يعرف بشأن تلك الأوراق إلا ثلاثة أشخاص، والدتك وزوجها وأنا، ثم أشار إلى ذاك الكرسي المتحرك الذي يجلس عليه قائلًا: وها هي نتيجة معرفتي
شهقت قائلة: إذًا زوج أمي كان السبب في قتل والدي وإجبار أمي على الزواج به وإصابتك لتكون قعيدًا
أومأ برأسه قائلًا: لذا لم أرد له أن يعرف حقيقة أنك ِ عرفتِ
ترقرقت الدموع في عيناها قائلة: لطالما عاملنا كأبنائه، لا أصدق أن خلف ذاك الوجه الطيب قاتل!
ضغط الجد بيديه على كتفها قائلًا: هبة أنا أرجوك ِ ألا تذكري له شيئًا عن معرفتك بالأمر
منحته ابتسامة مطمئنة تحمل خلفها الكثير.

نظر لها بتوتر قائلًا: ماذا هناك؟
ارتسمت ابتسامة متكلفة على محياها وهي تحتضنه قائلة تقول: لا شيء أبي، فقد جئت أعلمك أنني سأغادر مع أخي الليلة، لديه درس مهم.
تعجب الأب قائلًا: حسنًا، ثم تابع بحذر: وماذا عن الورق الذي كنتي تبحثين عنه؟ تابع بتمهل وكأنه يريد رؤية أثر كلماته: سيكشف لكِ ما وودتِ معرفته
تنهدت قائلة بنظرة ذات مغزى: هناك بعض الأشياء المدفونة التي يفضل ألا نزيح التراب عنها
والتفتت لتغادر إلا أنها وقفت قائلة وهي تنظر له نصف التفاته: كيف عرفت أنني كنت أبحث عنه
ابتسم بتكلف قائلًا: سمعت حديثك مع جدك بشأن الأوراق
أومأت برأسها قائلة وهي تغادر المكان تمامـًا: ما عُدت أريد الحقيقة التي تؤدي لموتي، يكفيني العيش موهومة بالحياة.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!