مقالات

ليست كما تراها

بقلم: آية الجبالي

تتساقط إحدى أوراق الأشجار الخريفية وتستمر في السقوط ببطء حتى تلامس بشرته الخمرية فتزيل عنه بعضًا من شرود ذهنه، وتعيد إليه شعوره بأنه يشبهها تمامًا في هشاشتها، رغم وشكانها على الذبول إلا إنها مُتمسكة ببعضٍ من خُضرتها.

يمسك بها، يتحسس ملمسها برفق، يقلبها بين يديه ليرى بريقها حين تنعكس عليها أشعة الشمس. ثم ما يلبث أن يعود لشروده مرة أخرى متساءلًا في حيرة بينه وبين نفسه:
هل هذا ما أردته حقًا؟! هل هذا ما تكبدت كل ذلك العناء من أجله؟!. أنني هكذا دومًا أتساءل عن حقيقة الشيء بعدما أكون قد خوضت الدرب لآخره وكأنني أريد أن أشرب اليم لآخر نقطة به لأتأكد من أنه مالح.

وليت هذه المرة الأولى التي يحدث هذا معي أو أن هذا هو التساؤل الوحيد الذي شغلني، بل على العكس فتلك الحالة لم تكن الأولى من نوعها؛ ففي الماضي لطالما راودتني العديد من التساؤلات التي لم أجد لها جوابًا قاطعًا إلى الآن فعلى سبيل المثال كنت دومًا أتساءل بيني وبين ذاتي هل أنا كما أبدو في عين أمي ذلك الشخص الناقم على كل ما يحدث له والغير راغب في إبذال أي جهد ويود لو تأتي له الفرص سانحة إلى عتبة بابه، أم أنني كما أعلم عن نفسي شخصًا يسعى ليحصل على الكثير والكثير من أحلامه ولكنه لا يصل إلا إلى الفُتات من كل شيء فلا يستطيع حينها أن يقبل به؟

هل أنا ذاك الفتى المهذب الساكن الخُلق كما يراني أساتذتي بالجامعة، أم أنني ذلك الذي لا يتوقف عن السُباب على أتفه الأشياء حين يجتمع مع أصدقائه؟
هل أنا الحبيب المخلص كما تراني هي، أم إنه إن حانت لي الفرصة للإجتماع بأخرى، لن أكون حينها يوسف الصديق؟

والكثير من التساؤلات الأخرى التي جعلتني قد أيقنت مؤخرًا أمرًا لم أرد أن اعترف بها يومًا فأنا لست شخصًا جيدًا بما يكفي، ولكنني وددت وحاولت كثيرًا أن أظهر بمظهر جيد حتى لا أخذل من وجدوا بيَ الخير.

أردت أن أكون قريبًا من الله مرارًا ولكن لم يكن لدي القدرة الكافية للإستمرار على ذلك القرب.

وكل تلك التناقضات هي من جعلتني أشعر في تلك اللحظة تحديدًا بأنني شخصًا مزيفًا كما أرى كل الأمور من حولي وأرى غيري من الأشخاص الذين مهما بلغت محاسنهم أعرف أن منهم الكثير مثلي بالضبط بل منهم من هم أسوء مني بكثير.

وذلك هو أحد أكثر وجوه الحياة غرابة.. فأنت تظن دائمًا أنك تتفهمها جيدًا، وأنك مُلم بكافة قوانينها وتعرف ماذا عليك أن تفعل بالضبط، تفهم ما يحدث حولك بدقة، وتملك قدرة مميزة على معرفة بواطن الأمور، بل تجد أنك قادرًا على التصرف في تلك المواقف التي ترى غيرك عالقًا في فوهة زجاجتها لا يعرف ماذا عليه أن يفعل.

فيحدثك أحدهم طارة عن خطبًا قد حدث معه وكله حيرة من أمره، تستمع له ومن داخلك ضجر كبير ورغبة في مصارحته بأن الأمر في غاية اليسر وتحدث ذاتك بأنه يوجد حلول كثيرة لمشكلته تلك فكيف لا يراها!

“ولكنك تظل على تلك الحالة إلى أن تستيقظ ذات صباح فتجد نفسك عالقًا مثلهم تمامًا، مثل ذلك الشخص الذي أخبرك بأنه لا يستطيع أن يتقبل فشله في هذا الأمر، أو تلك التي أخبرتك أنها لم تستطع تجاوز وفاة عزيزًا عليها إلى يومنا هذا، أو صديقك الذي يحدثك دومًا بأنه لا يعرف ماذا يفعل حيال مشكلته التي يراها في غاية التعقيد.

أو أي أمرٍ من كل تلك الأشياء التي تحدث لنا يوميًا باختلاف مسبباتها، تجد نفسك عالقًا في إحداها دون سابق إنذار، وتُدرك حينها أن الأمر لم يكن يومًا بتلك البساطة التي صورها لك عقلك حين أستمعت لمشكلاتهم، وأن القرار لم يكن سهلًا مطلقًا، بل وتشعر بسخرية القدر منك حين تجد نفسك ترى الحل بوضوح مثلما كنت تصفهم تمامًا. ولكنك لا تستطيع تنفيذه؛ لا تجرؤ على فعل ذلك الشيء الجلي أمام عينك.”

تُمسك بهاتفك لتحدث صديقك المقرب لتتخذ رأيه رغم علمك بأنه سيراك كما كنت ترى أنت الآخرين سيستمعُ إليك وفي داخله يعرف أن الحل ظاهر وجليَّ ولا يحتاج لكل تلك المهاترات، سيظن كما تظن أنت في الآخرين أنك بتلك السطحية التي تجعلك لا ترى الحل، إلى أن يأتي مقعده في نفس الدائرة التي نوجد بها جميعًا فيعرف هو الآخر أن الأمر لم يكن يومًا سهلًا.

وذلك ما جعلني منذ فترة طويلة أنظر للأمور كلها بفتور، فلم يعد هناك شيئًا يستطيع أن يعيد نظرة الانبهار إلى عيني مرة أخرى، لم يعد هناك ما يستهويني من الأشياء، بل وكذلك الأشخاص.

ولربما تكمن الحيرة هنا فنحن دومًا محاصرون بالرغبة في إيجاد شيئًا كاملًا في أعيننا شيئًا يظل دومًا مبهرًا وجميلًا كما سحرنا ظهوره أول مرة.

ولكننا لا نعرف أن سر الانبهار الحقيقي هو أن تظل تنظر لشيء أو لشخص بنفس النظرة حتى لو لم تجد به ما يجعلك تنظر له هكذا، شخصًا يظل مبهرًا في أعيننا باستمراره في خلق السعادة بداخلنا كل يوم.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!