ابداعات

خمر الصالحين

كتب: عبد الله الحداوي

القاهرة في القرن السادس عشر، برقية كتبت إلى السلطان المملكوي “قان صوى الغوري” كتب فيها…

ما قولكم في مشروب يقال له القهوة يشاع شربه في مكة المشرفة وفي الشام والقاهرة؟ هل يحل شربه أم يحل كونه مسكرًا ومضرًا بالأبدان؟
كتبت من ناظر الحسبة في مكة المكرمة؛ “خاير بك” إلى السلطان المملوكي الأعظم “قان صوى الغوري”

وبعدها تم عقد مجلس من أطباء المدينة وشيوخها لحسم أمر هذا المشروب، وبعد اختلاف الآراء خوفًا من شتات أمر الناس، تم رفع الأمر إلى السلطان قان صوى مع برقية تحييز ضد الشيخ “نور الدين الشافعي”
مفتي مكة الذي كان من المدافعين عن القهوة حتى أنه أتهم بالكفر فقط لأنه أيد شرب القهوة

ارتبط ظهور هذا المشروب ارتباطًا لا شك فيه بالحضارة الإسلامية، ولكن ليس بالصورة التي نعهدها اليوم في أرض الحبشة التي تعد أقدم بقعة أرض عاش فيها البشر،
كان “خالدي” أحد رعاة الأغنام يرعى في سهول الحبشة، وعندما يحين الغروب يستدعي أغنامه بالناي كما هو المعهود، ولكن ما حدث أن الأغنام هذه المرة كانت في وقت الغروب تشعر بفرط النشاط بعد تناولها أوراق نبتة كرز غريب، فأخذ هذا الكرز المر،وتذوقه، وكانت النتيجة أنه شعر بنشوة سعادة ونشاط غريبين، ولعجب ما رأى أخذ هذا الكرز إلى الإمام الجامع في هذه القرية، أخذ الشيخ أوراق الكرز هذه مع حباته وقام بغليها وشربها، لكي يبقى مستيقظًا طيلة الليل لصلاة القيام والعبادة، ومن هنا أصبح هذا المشروب هو المشروب الروحي في حلقات الذكر والمديح، والتعبد لأهل التصوف.

حينها أخذ الصوفيون هذا المشروب معهم إلى بلاد اليمن، ومن اليمن انتشر هذا المشروب بصورته الحالية في بلاد المسلمين، ومنهم مكة والشام والقاهرة، حتى أنه يذكر في التاريخ أن القهوة كانت تشرب حول الكعبة، وفي أرجاء المدينة المنورة، وهنا قام السلطان الغوري لم يبت تمامًا بأمر القهوة وأعرب عن قلقه حيال هذا المشروب، ولكنه لم يحلله ولم يحرمه.

تتحرك الجيوش المملوكية بقيادة السلطان المملكوي من القاهرة في مايو 1516 في موكب مهيب حتى تصل إلى مرج دابق في حلب وتستطف هناك بانتظار نظيرها من القوات الإسلامية العثمانية، بقيادة السلطان سليم الأول، وتنتهي المعركة بانقلاب خاير بك على قان صوى وانتصار العثمانيين وسقوط القاهرة سنة 1517
ليتعين خاير باك حاكم عليها.

في سبتمبر 1610 الرحالة والشاعر جورج سانبس يدخل أسوار مدينة لا يخفي كتابته انبهاره بجمالها وعظمتها، حيث كانت المدينة الأغنى والأقوى في العالم، عاصمة الأمبراطورية الأقوى في أوروبا
وهي عاصمة الإمبراطورية العثمانية “القسطنطينية”
رغم انبهاره بها إلا أنه عبر عن استغرابه لتقشف ووزهد أهل المدينة والأغرب أنهم كانوا يشربون مشروب أسود ترابي غريب الطعم، يتعاطونه من كبيرهم إلى صغيرهم، وكتب أنه يكاد يقسم أنه من المستحيل أن يشرب هذا المشروب في بلاده.

وعندما انتقل إلى الغرب في أوربا كان بعض الرهبان حينها يتوجسون خيفة من مشروب أسود قادم من الشرق وقدمونه للبابا للبت في أمره، البابا كيلمنت الثامن تذوق هذا المشروب ثم لاقى إعجابه بعد شربه

لم تتوقف الحملات ضد القهوة ونكرانها في أوربا، ولكن ترجح كفة القهوة وتنتشر انتشار عظيم في أوروبا وتبدأ المقاهي بالانتشار في أوربا لتصبح مشروب للتجمعات والمناظرات العلمية، بل وأصبحت القهوة سبب في تجمع الطلاب سماها المؤرخون تجمعات الجامعات الرخيصة، لأن الناس أصبحت تتجمع في المقاهي لعرض نظريات ومناظرات علمية في الفيزياء والرياضيات والفلك وغيرها وثمن هذا الحضور والتعلم هو فنجان القهوة الصغير.

بعيدًا عن فوائد القهوة وأنواعها، على الجانب الاجتماعي أصبحت القهوة سبب في تجمعنا وتواصلنا كبشر من خلال التجمعات البسيطة ومن هنا ولدت الحضارات والحكايات ونقل لنا ما نقل عبر التاريخ، بعيدًا عن كونها مشروب صحي مهدد بالندرة خلال المئة عام القادمة، لكنه نجح بالفعل بأن يكون خمر الصالحين ومشروب الإدباء والعلماء، وصديق اللقائات رفيق قصص الحب وأناشيد الصباح، وجزء لا يتجزأ من حضارة العرب المسلمين وتاريخهم.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!