ابداعات

“امرأة من ذرية الملوك”

✍ زينب عبد الحفيظ

 

أُغرز بعينيَّ قتامة الكحل، فتبرقان كأنني تلحفتُ بالحبيب. أنا امرأةٌ دوَّنها الزمان بخطٍّ عريض على دفاتر الخالدين، امرأةٌ قاتلت أشدَّ الرجال شرًّا، وافترشتْ بجيشها الفتَّاك أرض اليمن.

 

سبأ لي!

حاكمةٌ أنا وذكيَّة، ذات عينين عربيتين، مغترةٌ بنفسي، ولا بد أن يغترَّ التاريخ بي. أمتلكُ رقَّة الفراشات، وغضب الوحوش، وسرعة بديهة تفوق وثب القطط. قابضةٌ على مملكتي قبضةً من حديد، ينسدل شعري الحريري على عقلٍ مداهِمٍ جبَّار.

 

لكن… قلبي ضعيف، تائه.

كل شيءٍ تحت كعبِ حذائي، إلا أن هناك شيئًا مفقودًا، شيئًا يجعل الخوف يقتحمني ويفتك بي كل يوم. أدعو إلهي الشمس العظيمة، مصدر النور في هذا الكون، أركع لها وأرجوها أن تمدني بالطمأنينة، لكن دعائي لا يزيدني إلا انقباضًا.

 

كيف أكفر بها؟ وهل لي من إلهٍ آخر؟!

 

أجمعت القوم، وأعلنت موعد صلاتنا. وعندما انتهينا، جلستُ في شرفتي أراقب هزيز الرياح، فوقعت عيناي على هدهدٍ جميلٍ يقف على شجرة قريبة، يطالعني باهتمام. ابتسمتُ له، لكنه ولى هاربًا، فتعجبتُ لأمره.

 

وفي اليوم التالي، رأيته مجددًا، لكنه هذه المرة كان يحمل رسالةً مطوية بين مخالبه، ألقاها إليَّ ثم ابتعد.

 

التقطتُ الرسالة وفتحتُها، فاتسعت عيناي دهشةً وقلقًا!

 

“يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.”

 

ساد الصمت، واندلعت الحيرة في العيون. أردفتُ بتوتر:

“يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ.”

 

تحدَّث أحدهم أخيرًا، طالع الوجوه بترددٍ، ثم قال:

“نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ.”

 

لم يفدني بشيء، بل لم يزدني سوى تمجيد.

 

لقد سئمت التمجيد!

وكأنني خُلقتُ من تُراب الماس، يلوح لي الشيطان ويزيّن خطواتي، وأنا أتّبعه بتأنٍّ. تعشق النساء التمجيد، وتهيم بمن ينظر إليها وكأنها شيء نادر الوجود.

 

غادرتُ القاعة غاضبة، وجلستُ أفكر في أمر هذا الملك سليمان.

 

الملوك عندما يغزون مدينةً يفسدونها ويذلون كبارها، وهذا ملكٌ قويٌّ ذو قوةٍ جبَّارة، قادرٌ على ترويض الوحوش، وتسخير الجن، وتكليم الطير. يفتك بأعدائه كأنهم قطيعٌ من الأغنام!

 

ثم خطرت لي فكرة!

لمَ لا أرسل له هديةً؟ ربما يصرف عنا غضبه.

 

عرضتُ الأمر على مستشاريَّ فأبْدَوا ترحابًا شديدًا. رفعت رأسي وامتلأتُ غرورًا… أنا بلقيس! لم يقوَ أحدٌ على هزم عقلي وسحق ذكائي.

 

لكن لم تدم ابتسامتي طويلًا…

أدركتُ أنني كنتُ أشد النساء غباءً عندما نفَّذتُ فكرتي. عاد إليَّ رسولي بوجهٍ لا يبشِّر بالخير، يحمل رسالة تحذيرٍ صارمة؛ إن رفضنا دعوته، فسيجتاحنا بجيشٍ لا طاقة لنا بمواجهته، وسننتهي أذلاء مستسلمين.

 

ما بال هذا الملك؟!

تعميه قوته، ويُخضع الناس بالترهيب!

 

وقفتُ أمام مرآتي، أراقب وجهي.

تعجبتُ لِعَيْنَيَّ اللتين كانتا تبرقان كالنُّجوم في غياب القمر، خفَّ وجيب قلبي وأعلن وجومه من حالتي. لكنني قررت… سأذهب إليه!

 

هل كان اطمئنان قلبي له عبثًا، أم أنه نبيٌّ حقًا؟

 

تهيأت المملكة لخروج ملكتها، وتزيَّنت الأرض بألوان الورود، واحتشد القوم لرؤيتي. كيف يفوِّتون فرصة رؤية بلقيس؟

 

ضربتُ الأرض بحذائي، وامتطيتُ حصاني، وانطلقتُ حيث سليمان. لم يضطرب قلبي عند اقترابي… بل هدأ!

 

ما بال هذا القلب؟!

أخشى يا هذا، فنحن ذاهبون إلى أرض الوحوش.

 

تقدَّمتُ بجيشي القوي، ودلفنا فلسطين. ازدادت سرعة الجياد، وسَقَت الأرضَ وقعًا شديدًا. وقفنا أمام قصرٍ مهيب، متفرِّدٍ بمعماره، متميزٍ بالزجاج الشفاف.

 

لكن دهشتي لم تقتصر على القصر فقط…

جيش سليمان يثير في النفس البشرية خضوعًا، وإن كانت هذه النفس من أعتى ملوك الأرض.

 

اصطفت صفوف مهولة أمامي، صفوف بشرية بهيئات قاسية، وخلفها وحوش خرجت من باطن الأرض لتستقبلنا. أي جيشٍ هذا؟!

 

لكن العجب… لم أخف!

 

وقعت عيناي أخيرًا عليه… سليمان!

 

يا له من رجل!

محاربٌ، شجاع، وتقطر منه الصلابة. لكن… عيناه! لم تكونا قاسيتين، بل كانتا ضاحكتين.

 

استقبلني وأدخلني قصره.

شعرتُ بالإحراج عندما كشفتُ عن ساقي ظنًّا أن الأرض مغمورةٌ بالماء، لكنها لم تكن سوى أرضٍ زجاجية.

 

تكلم أخيرًا، وهو ينظر باتجاهٍ معاكس:

“أخبريني، أيتها الملكة… هل هذا هو عرشكِ؟”

 

ضيَّقتُ عينيَّ بشك، وقلتُ:

“كأنه هو…”

 

يا إلهي! كيف أتيتم به إلى هنا؟

 

ابتسم، وقال:

“لقد أُوتينا العلم من قبل، وكنا مرسلين.”

 

وهنا… استكان قلبي بجانب هذا الملك!

 

صرخ بي عقلي: إن هذا الدين هو دين الحق!

وسليمان؟! رجلٌ مرسلٌ من ربِّ الكون، الذي سخَّر له الريح وكل المخلوقات.

 

وهنا خضعتُ، واستسلمتُ، وأسلمتُ لربِّ العالمين.

 

نظرتُ إلى السماء بعينين دامعتين، وهمستُ:

“ربِّ إني ظلمتُ نفسي، وأسلمتُ مع سليمان لله ربِّ العالمين.”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!