ابداعات

أن تحيا والصفر ظلك الدائم

بقلم :ضياء علي الدعاس

كأنما خُلقت أرواحنا من صخرٍ تَكسَرت عليه أمواج الأقدار، لا تهدأ حتى تدفعنا كل حين إلى سُدَفِ المجهول، نبدأ، ثم نمضي… ثم نعود، لا لنتابع المسير، بل لنسلك دروبًا لم تكن يومًا من خرائطنا

ما أقسى أن تُولد في كل مرة من جديد! أن تُجبر على أن تخلع عنك ثوب الأمس وقد خَف وزنه حتى صار رداءً من دخان، لا يستر جَسَدَ الكبرياء ولا يَقيك برد الغربة! تبدأ على أطراف المدن وجيوبك مثقلة بالحكايا، خالية من الزاد…تفتش بين الأرصفة عن ملامح وجهٍ يشبهك، أو رائحة قهوة تُشعرك أنك لست غريبًا تمامًا عن هذا الكون.

ويا لسخرية الأيام…كلما شيدتَ أساسًا، عصفت به ريح الغياب؛ وكلما لامست يداك شيئًا من الطمأنينة، باغتك القدر قائلًا: ما لهذا خُلِقت!.فترى نفسك مُلقًى مجدداً حيث ابتدأت، كأن الحياة قد اعتادت أن تبدأ معك حيث ينتهي الآخرون.

وما أشد عذاب المشتت؛ كأنك مصاب بعمى الروح، لا ترى الأشياء إلا ظلالاً باهتة، وخطواتك تخطو لا نحو المدى، بل نحو غياهب الحيرة… ومع ذلك، أليس أعجب العجب أن هذا كليل البصر يرى من بين سُحُبِ الضباب بصيصًا من نور؟ كأنه نجم بعيد يهمس في صمتٍ بارد: إنك إن مضيت، وجدت، وإن وهنت، هلكت…

أما الوطن… آه يا لأسى الأوطان
هناك، حيث المآذن لا تزال تردد تكبير العيد رغم الشحوب، وحيث البيوت العتيقة تخبئ في جدرانها صوت الغائبين… هناك سورية، تحررت، نعم، ولكنها كالجسد الذي أُنهِك من المرض، ما زالت تبحث في عروقها عن دماءٍ جديدة تعيد إليها العافية.. تنظر إليها كالأم التي طال غيابك عنها، فإذا بك ترى وجهها شاحبًا، تنبت فيه ابتسامة خجلى، وتخفي بين تجاعيدها جراحًا لم تندمل بعد.

وها أنا، بين فُتات الحلم…وخطوات الراحلين…ودموع العائدين…يُطرح السؤال في صمتٍ مهيب…هل نعود فنبدأ هناك من جديد؟ أم نمكث حيث لم نبلغ بعد الدرجة الأولى من السُلَّم؟ وهل كُتب على أرواحٍ أثقلها الغياب أن تظل غريبة حتى عن أحلامها؟

إن للصفر هيبته التي لا يدركها إلا العظماء! فمن الصفر خُلق الوجود، ومن العدم بُعثت الأرواح، وعلى أنقاض الأمس تُبنى أعظم المدن…وما دام في الأرواح بقية من رجاء، فستُشعل من الضعف قناديل، ولو خف ضوءها، تظل تفتح ممرًا للعبور.

وهكذا تمضي الحياة، تُطيح بما يُبنى قبل أن يستقيم، وتبعثر الخطى على طُرقٍ لا نهاية لها…ينهض الحلم كلما سقط، ويولد الرجاء من رحم العدم؛كزهورٍ تنبت على أطراف الهاوية… جميلة رغم انكسارها، واقفة رغم الريح.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!