رحمة خميس
في غرفة قديمة يغمرها تباهت أشعة الشمس، أمام مرآة عملاقة بإطار ذهبي مُزخرف، أشبه بتحفة من زمنٍ غابر. بوابة إلى عوالم أخرى. عند النظر إليها، ترى انعكاسًا لرؤية لامتناهية لذاته الداخلية. خلف الزجاج، تنبض السماء بالسُدُم والنجوم، كأن الكون بأسره يحدق به من العُمق.
بينما يحدّق في المرآة، تسأله دون كلمات: “من أنت؟”
شعر بارتباك مألوف. الإجابة المعتادة لن تُجدي هنا؛ الاسم، الوظيفة، والماضي كلها تتلاشى أمام هذا السؤال العميق. لم يكن يعكسه زجاج، بل صورة مختلفة، مجرّد شبح من ملامحه التي امتزجت مع بريق النجوم. وجهه كان مضيئًا وكأنه قطعة من الكون، يشبهه ولكنه أوسع وأعقد.
مع كل نظرة أعمق إلى المرآة، كان يشعر أن حدود الغرفة تختفي، وتصبح جدرانها امتدادًا لفضاء لا نهاية له. سمع صوتًا أشبه بهمس النجوم يقول له:
“أنت لست مجرد إنسان على كوكب صغير. أنت ذرة في هذا الكون العظيم، وانعكاس لكل مجرة، ولكل شعاع ضوء.”
في تلك اللحظة، أدرك حقيقته التي طالما غابت عنه. أن داخله عوالم تضاهي تلك التي يراها في السماء. كل شعور عاشه كان نجمًا، كل فكرة خاطفة كانت
مجرة تنتظر الاكتشاف.
حينها، استوعب أن الكون ليس بعيدًا عنه، ليس في السماء أو خلف التلسكوبات. الكون هو انعكاس لذاته. كل فكرة، كل لحظة حب أو خوف، هي جزء من هذا الامتداد الهائل.
التحرر من السجن الصغير
شعر بالغرفة القديمة تضيق من جديد، كأنها تقيده بسقفها وأثاثها العتيق. لكنه هذه المرة كان مستعدًا. فتح النافذة، فاندفعت أشعة الشمس كأنها تبارك هذا الإدراك الجديد. أدرك أنه ليس سجينًا لجدران الحياة اليومية، بل هو كائن حرّ يحمل داخله كونًا كاملًا ينتظر أن يُعاش.
قبل أن يغادر، ألقى نظرة أخيرة على المرآة. لم يعد يرى مجرد وجه مألوف، بل شُعاعًا من الحياة. ابتسم وقال بهدوء:
“أنا الكون، والكون أنا.”
خرج من الغرفة بخطوات واثقة، وهو يعلم أن الحياة لم تعد مجرد تفاصيل عابرة، بل رحلة عميقة لاستكشاف هذا الامتداد اللانهائي داخله.
بينما كان يحدّق في العالم الخارجي، وقعت عيناه على شجرة قديمة أمام النافذة. لاحظ أغصانها القوية التي تصارع الرياح وأوراقها التي تلمع تحت أشعة الشمس. ابتسم؛ أدرك أن الشجرة ليست مجرد شجرة. إنها قصة صمود، تمامًا كحياته.
مدّ يده إلى حقيبة صغيرة وفتحها، فوجد دفترًا قديمًا كان قد أهمله منذ سنوات. كتب فيه أول فكرة راودته بعد هذا اللقاء العميق مع ذاته:
“أنا لست ما يراه الآخرون فقط. أنا انعكاس للكون. وأول خطوة نحو حياة جديدة تبدأ من هنا.”
رأى طفلة صغيرة تمسك بيد أمها، وعاملًا يبتسم رغم جهده، وعصفورًا يطير بحرية في السماء. كل تفصيلة بدت له جزءًا من لوحة متكاملة.
توقف في منتصف الطريق، استنشق الهواء بعمق، وقال بهدوء:
“اليوم لن أعيش الحياة فقط، بل سأرسمها بيدي.”
ابتسامته ازدادت إشراقًا، ومعها شعوره بأن العالم ليس مجرد مكان يُعاش فيه، بل مغامرة تنتظر اكتشافه لها بكل ما فيها من جمال وتعقيد.