ابداعات

وجوه للحب، ج:2

 

بقلم:ضياء علي الدعاس 

 

“كلما عرفتُه… جهلته”

 

في كل زمانٍ عبره الإنسان، تردد صدى سؤالٍ لم يُجب عنه بعد: ما هو الحب؟

أهو شعور؟ فعل؟ حاجة؟

أم أنه، كما وصفه بعضهم، ظلّ شيءٍ لا نراه إلا حين يبتعد؟

تعددت الرؤى، وتغيّرت اللغة، واختلفت التجربة…

لكنّ الذي لم يتغير، هو هذا الرجفان الخفي الذي يسكن القلب حين تمرّ الكلمة عليه.

 

في الجاهلية، لم يكن الحبُ عيبًا يُخفى، بل مجدًا يُجهر به…ذكر اسم الحبيبة كان ضربًا من البطولة، وامتلاكًا معنويًا لها أمام القبيلة… ففي هذا السياق ومن أجمل ما سمعت هو هذه الأبيات لعنترة العبسي، حين نطق باسم عبلة…لم يكن يتغزل فحسب، بل كان يُعلنها راية:

“وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ – مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها – لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المتبسمِ”

الحب آنذاك لم يكن فلسفة، بل موقف،

رجل يحب، ويقاتل، ويفتخر… دون أن يسأل عن المصير.

 

ثم جاء الإسلام، ليُهذّب الغريزة لا ليكبتها، ويصوغ العاطفة لا ليلغيها،أولئك الذين أحبوا في ذلك الزمن، لم يقولوا كثيرًا،

لكنّهم عاشوا المعنى في هدوءٍ عميق…

النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عبر عن حبّه لخديجة بقولٍ واحد،

كان كافيًا ليحمل كل تاريخ العاطفة النقية:

“إني رُزقت حبّها.”

وفي بيت علي وفاطمة، تجلى الحبُ في الصبر، والخدمة، والرضا،

كأن الأفعال قالت ما عجزت الكلمات عن التعبير عنه.

 

ثم جاء التصوف الإسلامي، فأعاد تعريف الحب من جديد،

فهو لم يعد مشاعر متبادلة، بل فناءٌ كامل في المعشوق،قال الحلاج في واحدة من أبلغ مقولات العشق الإلهي:

“أحبك حبّين: حبّ الهوى، وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا”

ذلك الحب الذي لا يطلب، ولا ينتظر، بل يحترق من شدته،ويجد في الحرق معنىً لا يُترجم…الصوفي لا يبحث عن المقابل،

بل عن الذوبان، حيث لا يبقى من العاشق إلا النبض باسم من أحب.

 

مع العصور الوسطى، تراجع الحب إلى الظل،

وتحول إلى فعلٍ خفي، خوفًا من الأعراف أو الدين أو السياسة.

في أوروبا، كتب شكسبير أشهر مأساة حب في الأدب: روميو وجولييت؛ذلك الحب الذي تحقق فقط حين مات أصحابه، وكأن الحياة لم تكن قادرة على احتضانه.

يقول شكسبير:“هذه القُبلة تمحو ذنبي.”

الحبُ أصبح ذنبًا جميلًا…

ذنبًا لا يُغفر إلا بالتضحية، وربما بالموت.

 

وفي الشرق، لم تكن الروايات مكتوبة،

لكنها كانت تُعاش في الصمت،

نظرة عين، أو خفقة قلب… لا تُقال، لكنها تُدرك.

 

في العصر الحديث، تحديدًا في زمن النهضة، تحرّرت اللغة قليلًا، وظهر الحب في الأدب العربي بأشكاله الأولى.

إحسان عبد القدوس، على سبيل المثال، لم يكن كاتبًا غزليًا، بل مفكرًا كتب الحب كصراع:

بين التقاليد والتمرد، بين الجسد والكرامة، بين الرغبة والضمير؛أما نزار قباني، فحول الحب إلى بيان حرية، كتب عن الحب كما تُكتب الثورات…

فقال:أحبك جدًا… وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل

لكنّه لم يتراجع… لأن الحب عنده لم يكن استقرارًا، بل مواجهة.

 

في القرى، لم يكن أحد يتحدث عن الحب، لكن الكل كان يعرفه.

في طبق الطعام الذي يُترك للغائب،

في منديل تُطرزه اليد ويُخبأ في الخزانة،

في نظرة الأم حين تضع الغطاء على ابنها النائم.

لم تكن هناك كتب،

لكن كانت هناك قلوب تفهم قبل أن تُعلم.

 

اليوم، كل شيء تغير، حتى الحب لم يسلم من السرعة، والتفاهة، والقلق الدائم،صارت العلاقات تُقاس بزمن الرد، والقلوب تُختبر بمؤشر “الظهور الأخير”.

الحب أصبح قابلاً للحذف، للضغط، للتعديل،

لكنه نادرًا ما يصمد أمام الانتظار

 

ما الذي تغير؟

هل تغير الحب؟ أم نحن الذين لم نعد نعرف كيف نُحب؟

كل عصرٍ رسمه بلونه،

من السيف إلى الحياء،

ومن الصوفية إلى الرواية،

ومن منديل الريف إلى هاتف الجيب.

وحتى اللحظة،

ما زال الحبّ لغزًا،

كلما اقتربنا منه… ابتعد خطوة.

 

كلما عرفتُه… جهلته.

 

يتبع…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!