بقلم: زينب عبد الحفيظ محمد
المقدمة: رائحة الليل والخطيئة
فرنسا، القرن السابع عشر (عهد لويس الرابع عشر). الليل متخلل السماء وناثر على صفحتها نجومه الباهية. الليل مستمع جيد للحكايا المهمسة خلف الجدران، وأيضاً التي تنبعث من تحت الأرض. الليل كاتم لأسرار البشر، يلف الأحاديث ببرقعه المُدلهم ويدسها بجيب سترته خافيةً من أعين الصبح الفاضحة.
بينما أقدام تخطو الطرقات لتتنبش بالأزقة بهيئة بوليسية غاشمة، وملامح ترهب نفحات الهواء الرطب. بصباح يوم 16 يوليو 1676، دوت به صفارات التهيؤ، ودون بدفاتر فرنسا خط بالقلم الأحمر بيد عصيبة متشنجة الضابط لا رينيي (رئيس الشرطة) جملة جعلت العقول تعيد النظر نحو نعومة النساء ورقة أصواتهن بتشكك. التفّ النبيل والسيد نحو كلماته بحذر، وتمتمت الأفواه الممتلئة: “النساء الجميلات أحياناً يكن أقنعة للشياطين التي تسكن بهاوية الأرض.”
الرائحة الأولى: العطر المسموم (المركيزة دي برينفيلييه)
كانت البداية مع الرائحة الأولى: عطر عُصر من دهاليز فتاة جميلة بالعشرين تتلهف بشوق لملء يدها بالنقود العائلية، متقدة بالتسرع. لم تنتظر خيالاتها توالي الزمان ورحيل أحبتها بالقدر، بل أمسكت القدر الممتلئ بالسموم ورمته بخفة بوجوه عائلتها. رجل اتخذته حبيباً ومصدراً للحياة، الضابط سان كروا، هو من ساقها بتأنٍ نحو الموت الدنيوي ثم إلى الهلاك الجسدي بتعليمه فنون السُم.
المركيزة ماري مادلين دي برينفيلييه قتلت أبيها أنطوان درو وأخاها بالسم، بعدما أجرت عدة تجارب ناجحة على المساكين من المرضى بمستشفى “أوتيل ديو” التي عملت بها كملاك للرحمة، لتتحقق من فاعلية “بودرة الوراثة”. تصاعدت رائحة عطرها الفريدة وتراقصت بأجواء باريس فالتقطته أنوف متخصصة، وتم إعدامها. ظنّت باريس أنه أخيراً تنفست الصعداء، ونظرت بفخر إلى رجالها: “أولئك هم أصحاب الصباح الفاشيين لأسرار البقع الداكنة.”
الرائحة الثانية: فواحة الروائح المحرَّمة (لافوازان)
ولكن، إبليس خلَّف وراءه ذرية مهولة. سرعان ما اكتشف الضابط لا رينيي أن قطع ذيل الأفعى لم يمنعها من الهروب. الرائحة الثانية، كما وصفها الضابط لا رينيي، “تشبه اشتعال الحطب المشبع بالدماء”، هي رائحة لـ لافوازان. كانت مصدراً كاملاً للسموم يغذي يأس وطمع الطبقة الأرستقراطية.
لافوازان لم يكن هدفها المال، بل تدفق الناس إليها، والإيمان بما ترى، وهي لا ترى سوى الظلام. هذه المرأة القوية الغامضة، التي وُجدت بقلب باريس، لم تكتفِ بتقديم السموم وبيعها فقط، بل غدت عرقاً أساسياً يعتمد عليه في نشر خدمات السحر الأسود والتنبؤات. طقوسها كانت شيطانية، ترقى إلى “القداس الأسود”، حيث كانت تقدم قرابين من بقايا أطفال حديثي الولادة ليرضى عليها مشايخ الأرض من الكفر.
الرائحة الثالثة: الرائحة العالقة (مدام دي مونتسبان)
الرائحة الثالثة تداخلت؛ رائحة امرأة مرتكزة تنزلق خفية من قصر الحكام وتتورط بالجرم. هدفها هو أن يبقى جمالها مشبعاً بعين الملك، أن تبقى هي دون غيرها من صغار السن من الفتيات.
وصل لا رينيي أخيراً إلى فواحة الروائح هذه وهجم على وكر الأفعى ممسكاً رأسها بغضب. ولكن تمايل جسدها العنيف أفقد تركيزه، فوجد نفسه أمام ورطة حقيقية عندما ضيق الخناق على شركاء لافوازان، خاصة شريكها المقرب آدم لوساج، الذي أدلى بفاجعة غير متوقعة: مدام دي مونتسبان، العشيقة الرسمية للملك ووالدة أطفاله، كانت من زبائن منزل الجحيم هذا؛ زبونة منتظمة ابتاعت السموم وجرعات الحب لتهيمن على عقل الملك، وربما شاركت في القداس الأسود.
الخاتمة: عدالة العرش
لقد أصبح فضح الملك أمام البلاد، ومعرفة أن والدة أطفاله وعشيقته الرسمية “خادمة شيطان”، إهانة كبرى لكيان الأسرة الحاكمة. العدالة عند القادة لا تتماشى كما تتماشى مع الرعية. إن أُعدمت مونتسبان، ربما ستجر خلفها أسماء أخرى من النبلاء، وستتسخ اللوحة الفنية المبهرة للدم الملكي. وهنا أتى إنقاذ العرش على حساب الحقيقة.
أمر الملك بحل “الغرفة المُحرِقة” ووضع بها لافوازان وستة وثلاثون متورطاً آخرين حتى يموتوا بلا ضجيج حرقاً، لتلقي رسالة رادعة في الساحات العامة. وحُبست مدام مونتسبان سراً وفقدت مكانتها عند الملك وأبعدت من البلاط الملكي بعد بضع سنوات. أُحرقت الأوراق التي تدين الكثير من النبلاء ذوي الملابس الشريفة، رغم رائحة الفضائح التي انتشرت منهم، وسُجنوا سراً مدى الحياة.
تنهد الضابط لا رينيي أخيراً عندما انقشعت الروائح الخانقة من الأجواء، وراق الصباح بروائح باريس المنعشة، ليُدفن سرّ عرش الشمس تحت رماد النبلاء المجهولين.




