أحمد المقدم
لم يكن نموذج الصعيدي المرتدي للجلباب والعمة سوى مادة خصبة للتندر والتنمر على قاطني الريف من أهل الحضر. فلقد كان ابن الريف نموذجا للإنسان النقي الخام الذي لم يتلون بألوان أضواء المدينة المختلفة. لقد كان الريف موطنا لبعض المفاهيم التى كانت في الأصل ممارسات نبيلة مثل مفهوم الأصول واحترام الكبير والطبع الحامي وخلافه. حتى وإن كان يُنظر إلى هذه الكلمات من قِبل أهل المدينة على إنها رجعية و تأخر، إلا إن الأريافجي لم يبال بعقلية الحضور المتفتحة فكان لا ينفك يطبق جميع ما تربى عليه آباؤه وأجداده. ولقد كنا منذ زمن ليس بالبعيد جل نساء الريف يلتزمن باللبس الريفي الذي كنّ يعرفن به.
لقد كانت الصورة النمطية لدى أهل المدينة الذين يمسكون بزمام الإعلام منذ بدء التلفزة مصدرا للسخرية والكوميديا لدى السينيما والتلفزيون، بدءا من إسماعيل ذلك الصعيدي الذي يقرر أن يشتري العتبة الخضراء في فيلم العتبة الخضراء، بطولة إسماعيل يس
(انتاج1959سنة)
مرورا بمحاولة هدم النموذج الذكوري للرجل الصعيدي الغيور على عرضه في فيلم النداهة(انتاج سنة 1975)، عن قصة الأديب الراحل يوسف إدريس، وهناك أيضا الكوميديا السوداء التى قدمها عنتر الفلاح المصري الذي لاذ بالفرار من جحيم الفقر والفلاحة نحو إيطاليا ليجد نفسه ضحية لصناعة الأفلام المنافية للآداب نتيجة لسذاجته المطلقة حتى يعود إلى أرضه وحقله وعائلته بخفي حنين (فيلم عنتر شايل سيفه انتاج سنة 1983)
وخلافه من عشرات بل ومئات الأعمال السنيمائية والتلفزيونية والتى كانت ترمي فى مضمونها إلى فشل نموذج الريف و طبيعة أهله المتحجري الفكر والمعدومي الذوق و الإتيكيت.
وفي العصر الحديث جاءت الرأسمالية بعدتها وعتادها المتمثل في الإعلام المتناثر على منصات التواصل لكي
ترمي بالفكرة النمطية التى تحكي عن نقاء الريف عرض الحائط وكأنها تحذر المنتمين للريف من أن يكونوا مثل هؤلاء الذين أبهرتهم أضواء المدينة فبالوا بجوار الحائط.
والواقع هو أنهم اقتحموا آفاقا أبعد مما كانوا يرنون إليه، فلقد نجح المشروع الإمبريالي المعلوماتي الغربي في خلق نموذجا مستغربا من خلال تقديم قيما وثقافات غربية من خلال المعلوماتية التي ألقت بظلالها على مجتمعاتنا. ومما كان من أثر ذلك هو أن الريف قد وجد فيها ملاذا سهلا متاحا للهروب مما قد اعتُبر رجعية وتخلفا من قيم و عادات أصبحت من دأب الماضي الذي لن يعود. وقد أفضى ذلك إلى تحول الريف من مجتمع منغلق على قيم مستمدة من السابقين إلى مجتمع يلهث وراء الحداثة المستقاة من وراء الشاشات الذكية.
وأزيدكم من الشعر بيتا أن ذلك الريف قد ارتقى في تحوله المعيب عن الحضر. فبخلاف المدينة، لا زال الريف محكوما بقانون الاقطاع والرأسماليين الذين قد جعلوا من المادية معيارا للحكم على الناس. فقط يكفي أن تكون اقطاعيا كي تعيش رفاهة ترتسم ملامحها من تلك المعروضات التى لا تفتأ وسائل التواصل الاجتماعي تنشرها صباحا ومساءا بما فيها من خَبَث و إسفاف لم يعهدهما لا القاصي ولا الداني، حتى صار الريف مستقبلا للواجهة الزائفة للمدنية أكثر من الحضر الذي يعج بالبروليتاريا والطبقة المتوسطة الذين لايزالون يعيشون سباق الفئران وتقل درجة تأثرهم عن أهل الريف.
لقد أخذ ذلك النموذج للشخص الريفي النقي بنقاء أمه الطبيعة، في الذبول والتلاشي شيئا فشيئا عندما آثر أن ينبهر بأضواء المدنية الوهمية التي أصبحت تنبعث من الشاشات حتى أصبحنا نراه ك “عواد” الذي باع أرضه دون لومة لائم من أجل أن يجد له مكانا وسط تلك الأضواء
إن القضاء على نموذج الريف المنتج الذي يعج بإنسان الطبيعة قد وقع على عاتق الثورة الصناعية التى حولت المجتمع الأوروبي إلى مجتمع صناعي منتج حتى صار الريف مجرد أراض زراعية منتجة فقط للمواد الخام والغذاء، وخلال تلك الحداثة، رأى الفلاح أنه قد دخل ثقبا زمنيا جعلته متأخرا في التمدين عن إنسان الحضر أو عن ذلك الذي باع أرضه وراح يبحث عن مشاريع أكثر تماشيا مع النظام الرأسمالي الذي يدر عليه ربحا ماديا وفيرا دون أن تتشقق يداه ورجلاه من فلاحة الأرض المضنية تاركا وراءه قرينه الذي هو بين اقطاعي قد ارتضى بحياة الاقطاعي الذي يستأجر عمالا يزرعون أرضه من فقراء المهارة الذين لا يملكون من أمرهم شيئا سوى ضرب الأرض بفؤوسهم لاهثين وراء أجورهم، أو شخص يمنى نفسه بالنزوح نحو المدينة كما فعل جاره الذي لم ينظر وراءه وقت أن باع أرضا قد فقدت جوهرها بعدما دخل العالم إلى الرأسمالية التي جاءت لتؤكد على ما أكدت عليه الثورة الصناعية منذ ما يقرب من قرنين من الزمان.
ربما لم يملك بيجوفيتش في يده هاتفا
محمولا يمتلأ بالعشرات من تطبيقات التواصل الاجتماعي التي أصابت الجميع بهوس الكسب المادي من خلف الشاشات من خلال التحول إلى مسوخ صناعة المحتوى، فقد تحدث عن إنسان الريف الذي رغم بساطته كان أصدق من إنسان المدينة لأنه كان الأقرب لمناجاة الطبيعة من خلال الفلكلور والفن والتأمل. لقد رأى بيجوفيتش إنسان الريف أكثر تدينا من إنسان المدينة التي تدهورت لديه القيم عندما اخبأت روحه في آلية الحياة الجافة في المدينة.
أما الآن، فقد أصبح كلاهما تحت وطأة الرأسمالية متساويين. فصار الريف يلفظ قاطنيه تباعا نزوحا نحو المدينة بعد أن فقد مع مرور الزمن جوهره وبعد أن خيمت العولمة بأضوائها الخافتة المنبعثة من الشاشات.
لقد ازداد إنسان الريف جشعا عندما صار وراء عقله اللاواعي ينغمس في الرأسمالية عاقدا مئات المقارنات ومعتنقا لعقيدة الأرقام. لقد أصبح يلهث وراء الحداثة والمدنية في الشكل والمضمون. فأصبح السروال الضيق يحل محل الجلباب، وأصبح الحجاب ديكورا يخبر عن بعض ما يظهر من خصلات شعر تترك عن عمد عند مقدمة الرأس وخلافه من مظاهر لم تكن في الحسبان.
وفي النهاية استعجب من براعة يوسف إدريس في انتقاء عنوان لقصته التي صارت فيلما يحكي عن إنسان الريف الساذج الذي سلبته المدنية الساحرة عقله، تلك الجنية التي كانت فلكلورية في أقاصيص الريف والتي كانت شرا خفيا يحذر منه الأطفال فكان يقال لهم على شخص فقد عقله، “ندهته النداهة”




