ابداعات

كنوز تحت الأرض

 لحن الشر

بقلم: زينب عبد الحفيظ

سمفونية هادئة غزت أجواء الساحل. تراطم المياه بالصخور المعشبة أحدث وتيرة متتابعة من دقات القلوب. هنا، بالهدوء المنعزل عن صخب الحقب وأنفاس التاريخ.

تقاطع صوتان شديدا الحدة. غلظة نبراتهما هزت عروش الماء والتفت على أثرهما حوريات البحر والسيرينات. إن حاولت الإصغاء جيداً لتحكم أيهما أشد فتنة، لخابت آمالك هباءً. فإن ما حييته من قلة السنوات لن يتدارك معرفة هول صيحات الزمان. صكَّت أنياب الغيظ، وأقسمت جبال الأمواج أن لكل لحناً مريباً. نبرات مخيفة ذات صدى شاع بكل العوالم تنم عن أجساد تلتهم السواد بشراهة، أفواه، مشتعلة أكثر من فوهات البراكين.

صوت يقف بالقرن الثامن عشر يعتلي سفينة ضخمة ملطخة بهمسات الموت، والآخر يتبختر ليشاكس أرض العشرين قرناً، لتتقاطع وصلة جنونهم المشتركة هنا على عتبات الفناء المُذَّهَب في جزيرة كوكوس.

مصباح زيتي وآلة تنقيب خلّفا مجموعة من الأصدقاء الواثقين بغموض الظلام أكثر من بعضهم البعض. يقودهم عقل مسَّه هوس الحكايا التي طواها الزمان وخبأها بدفاتر العجز بعدما بهت بنو آدم من تفكيك شفراتها. أسرار الأرض تنفر من أقدامه؛ ذاك الجسد الذي ابتلع مشاعر الإنسانية. بيل ستانتون؛ رجل إن دنا من رواسب الغبار، هاجت شياطين الأرض مستنفرة.

عقل يحمل جشع القرون السالفة في عينيه، يبحث عن كنوز التاريخ بمعدات حديثة ليخلد اسمه كطاحون للتنقيب. في جزيرة نائية منعزلة يسير بحذر، متابعاً لوجهات الرياح وهمهمة الحشرات، يتلفت بجمود وجه لا يعكس اضطرابه من هذا الغموض المظلم، متصدياً للمخاطر بقلب هادر لا يهاب تلك الأصوات التي ترميهم من باطن البحر مدندنة بأصوات عذبة.

استوقفه نداء أحد أصدقائه سائلاً: “ماذا بعد يا بيل؟ لقد طالت رحلتنا بهذه الجزيرة المشيبة للرأس. لن نعثر على شيء وأنت تدري.” ثم نظر إلى البقية وأردف بسخرية: “لست أذكى من بلاكبيرد يا رجل،”

تشنجت عضلات بيل والتفت بتباطؤ متعمد، مما أثار حذر البقية من اندلاع سيل لا بأس به من صفع الكلمات الباردة على هذا الأبله بعدما قلل من رجاحة عقل صياد الكنوز. لكنهم بُهِتوا عندما اختصر بيل وصلة التباهي بكلمة واحدة: “غادر.” وتابع وهو يعاود السير: “إن أصابك الإعياء أو الملل من مرافقتي… غادر… إن استطعت.”

نظر المتحدث إلى أصدقائه ببسمة مرتبكة، فهو يعلم إن تخلف عنهم فسوف يصطدم بالموت، إما من طبيعة الجزيرة المخيفة، أو ضرباً برصاصة غاضبة دُسَّت بغمد سلاح بيل.

بعد مسيرة لا بأس بها من طولها، تنهد بيل بيأس ونظر نحو السماء، حيث النجوم المترقبة، مفكراً هامساً لكبريائه: “أرجو منك الخنوع فلن تفلح. أنت تنقب هذه المرة عن مجهول، فلقدت فشلت في إيجاد كنز ليما الأعظم، وها أنت الآن تكابد لتنتزع روح قرصان من قبره. القراصنة خلفاء الجن على سطح البحار، وذاك القرصان تحديداً كان بشرياً بهيئة شيطان.” ناطحه كبرياؤه: “لن أعود إلا مُثقَلاً بأوزان الذهب وإن لم أجد ما أنتشي به لن أعود.” أشار إلى أصدقائه وصاح بجهورية حادة: “لكل وجه يا رفاق! تفرقوا لنُلملم أطراف الجزيرة بين كفوفنا. لن أعود فارغ الوفاض!”

انصاع البعض إلى أوامره، بينما زاغت أعين البقية خوفاً، لكن لا مفاوضة في الحديث بعد صيحة من صيحات بيل القاطعة. صاحبته خيمة الصمت بعد تلاشي وقع الخطوات المبتعدة، وسار ليفتش عن الهلاك مغمغماً بألحان النصر ناظراً بطرف عينيه نحو الأمواج الهادئة كأنه يخبر من يتغنون بالأعماق أنه يمتلك لحناً أحر، منتشياً بأحرف اسمه: بيل قاهر سراديب الأزمنة المندسة.

وإذ فجأة تتعرقل قدماه ويهوي واقعاً في موقعه النائي، محتضناً حقيقة صلابة الأرض، مرتطماً بحافة حفرة رطبة. تأوه بغضب مطلقاً سباباً لعيناً وأخذ ينفض يده مما علق بها. لم يكن يدري كنهيتها، فقط مادة لزجة علقت بطموحه الجشع وأحدثت خللاً بصحوة حاله. وقف منيراً بمصباحه ليرى بأي جحيم علق، لكن اتسعت عيناه بفزع مريب واضحت ملامحه مرتعبة، ومن ثم صرخ صرخة شقت سكون الجزيرة بسوط من نار. التفت على إثرها الرفاق بوجل، ونفرت حشرات الأتربة السامة لتختبئ مما قد استيقظ من سباته.

جسد إنسان ينزف الدماء بغزارة، مزرق الوجه شاحب العينين، وكأنه قُتل للتو لكنه متآكل الأطراف، يطفو على وجه حفرة. نظر بيل إلى يديه المتلطخة بتقزز ثم عاود النظر نحو القتيل فبهت وجهه عندما وجد أن الرمال ابتلعت ثرى الدماء بتعطش وغطت الجسد بتوارٍ مُخزٍ، وكأنها كشفت عن أخطر أسرارها دون وعي.

وبحركة خاطفة، وضع مصباحه على إحدى حافات الحفرة قبل أن تخفيها الرمال، وزهت عيناه حينما أدرك أهمية الحدث الخطير الذي يتجحفل تحت قدميه. لقد بدأ يصدق فكرة أنه ممسوس من قبل أحد الشياطين الصالحين الذي يعاونه لإطفاء المجوهرات الثرية على وجه الأرض.

أمسك الحافة وجلس القرفصاء يبعد الرمال عما تخفي، وكلما أبعد حفنة بيده صدرت أصوات مُنبعثة من باطن الحفرة؛ أصوات مهمهمة وحدث مكتوم، لكنه لم يهتز قيد أنملة واستمر فيما يفعل. واخذت عيناه بالاتساع وامتلأتا بالحيرة من هذا الجنون عندما أبصر نوراً فذاً يزداد وهجه رويداً مع تعامد إزاحة الرمال، والتقت جملة جعلته يتوقف للحظة قبل أن يتهاوى وتبتلعه الرمال، وتُرَدَّد صداها بالأجواء بهمس مريب ساخر:

“السر يبقى في الجحيم حتى يعثر عليه الشيطان بنفسه.”

أصابع نالت من قساوة الفعل ما صلَّب جلدها، تتخلل لحية سوداء طويلة مضفرة بشرائط ملونة وعينان متوعدتان محتدمتان بمظهر مخيف وجسد ضخم. وقف بلاكبيرد يتصاعد من رأسه الدخان إثر الفتائل المشتعلة المبللة بالملح ونترات البوتاسيوم التي يدسها تحت قبعته. هيئ لبيل أنه اصطدم مع لوسفير شخصياً من هول الوقعة. وجد نفسه بكهف مظلم لا يضيئه سوى وهج المشاعل، لم يكترث للرمال التي ملأت جسده، ولم تلتفت مقلتاه إلى الذهب البراق حوله ولا إلى صناديق الماس فلم يقوَ عن الانحياز إنش من ذلك الشر المتجسد أمامه وكأن طمر في هراء أساطير التاريخ الوهمية. وتمتم بذهول وهو مسلوب الحواس: “إدوارد تيتش… بلاكبيرد…”

التفت بلاكبيرد نحو ما كنزه من مال بحياته براحة غامرة لقسمات وجهه المتعرجة وتنهد بأنفاس راضية ثم التفت إلى الخلف حيث رجل يرتدي ملابس مشابهة له وقال بصوت غليظ مبتهج: “ما رأيك يا جودفري؟” بينما الآخر كان يقطم لحم سمكة تتصاعد منها دخان الشواء وابتسم مجارياً لحديثه: “لقد فعلت الصواب أيها القرصان. لن يعثر على هذه الغنيمة سوى شياطين السواحل. هنيئاً لك بهذه العقلية!”

تمتم بلاكبيرد وتنهد بثقل: “ليكن الصيد لي والحماية لك يا أخي. ما رأيك؟”

تهجنت ملامح صديقه ونظر له وهو يلوك طعامه بشهية أوشكت على الانغلاق وقال: “بربك يا بلاكبيرد، إلى ماذا ترمي؟” عقد حاجبيه بإدراك وتابع: “أنسيت يا رجل؟ لقد كنت حليفك بالمعارك! أذكر حرب الكورساج ودماء أسطول سانتا ماريا! أذكر آلاف الكيلوغرامات من التبغ وجبال السكر والبن والغنائم التي طالتها يدك! ألم نتقاسم الموت والجشع معاً؟ أين ذهبت حصصي من سلب سفن جامايكا، وغنائم تشارلستون، وأرباح النهب التي طالتها يدانا؟”

بالطبع كان بيل يتابع توالي الحديث بابتسامة مخيفة؛ يعرف التالي، فمن ذا الذي لا يعرف أسطورة كنوز بلاكبيرد؟ هز بلاكبيرد رأسه بتفهم وانساب بالحديث شارداً: “أنت لن تخبرني بإنجازاتك يا جودفري؛ أعرف أنك الساعد الثالث لي، ولذلك أريدك أن تكون القفل الأبدي لهذه الثروة الجامحة.” وفرد يده ودار حول نفسه بتباهي: “أنت ستحرس المجد الحقيقي، ليس التبغ أو السكر. ستكون مصاحباً للمعان الماس ورنات الذهب.” ثم أمسك سيفه وغزه في الأرض بقوة، متابعاً: “هنا الخلود يا جودفري. هل تظنني ناكراً للجميل لهذا الحد؟ فأنا سأكلفك بمهمة شريفة أيها القرصان.”

وقبل أن يدرك جودفري أصدق حديثه أم يخالطه السخرية واللهو، وجد سيف بلاكبيرد ينحر رقبته. وضع جودفري يده على رقبته المنحورة بصدمة، شخصت نظراته نحو الدخان المتصاعد من رأس شرور الأرض الذي تشكل بهيئة قرصان دموي. الكنز صارخ بفزعات الضحايا والقتلى. نظر بلاكبيرد إلى جسد صديقه المرتجف لخروج الروح، ثم أمال قبعته وانحنى له ببسمة صادقة، خاتماً: “فلترحمك الملائكة.”

ثم استدار ينظر إلى غنائم سنواته وظل ثابتاً يناظر الرقعة التي يقف بها بيل. تقدم بيل منه عدة خطوات ونظر داخل عينيه بتحد. يعرف أنه لم ولن يراه، فالفاصل بينهما بضع خطوات لكنهما يعادلان قرون. صرخ بيل بغتة بوجه بلاكبيرد قائلاً: “ستتمرمغ بالجحيم يا بلاكبيرد، وأنا سأنهب ما نكثت على ادخاره بيد من فُولاَذ كل حياتك!”

تنهد الأخير بهدوء وارتدى قبعته مجدداً، وألقى نظرة أخيرة إلى الكنز قبل أن يصيح بصوت هادر غاضب كأنه يخبر الغرفة والجدران بهويته: “لن يقوى إنسان في متسع هذا العالم على تدنيس هذا الكنز! لن تدب قدماه هنا!”

ثم أحكم قبضته فانهارت الجدران تباعاً. نظر بيل حوله بصدمة حقيقية ووجه شاحب، ولوهلة أيقن أنها النهاية. ولم يشعر بشيء بعدها سوى استماعه لضحكات بلاكبيرد الصاخبة. لم يَعِ بشيء إلا عندما وضع أحدهم رائحة نفاذة جعلت وجهه ينكمش بانزعاج. فتح عينيه ببطء فوجد أصدقاءه ينظرون إليه بخوف وريبة. اعتدل في جلسته سريعاً ونظر حوله بفزع؛ لم يجد أثراً للحفرة الملعونة، فالرمل عاد ناعماً ومستوياً، وكأن الأرض لم تكشف عن أسرارها قط. قال بصوت مبحوح ومرتعد: “أين ذهب؟ أين… الكنز؟”

قال أحدهم: “ما بك يا بيل؟ ما هذا الهذيان يا رجل؟ لقد تفهمنا أنك مهووس بالتنقيب، لكن هل سيصيبك الجنون وترى ما لا نرى؟”

اسودت عيناه بغضب، وابتلع الحكايا بداخله. فإن كان هؤلاء يرمونه بالجنون قبل أن يعرفوا ما رأى، فسيتأكدون حينما يعرفوا. لاذ بيل بالصمت المطبق دون نفي حقيقة جنونه الذي رُميَ به، مما أثار دهشتهم.

تابع صديقه: “على أي حال، سنغادر غداً. فلن أبقى هنا أكثر، فأنا أشعر أن الخطر سيضربنا قريباً.”

قال بيل دون معالم يستشفوا منها شعوره: “اذهبوا أنتم، فأنا باقٍ هنا بهذه الجزيرة. لن أغادر.”

نظروا لبعضهم البعض دون فهم. وكاد أن يعترض أحدهم فصاح بحدة: “لا أريد مماطلة بالحديث. انتهينا!”

وفي تلك اللحظة، لم يسمع بيل سوى صوت تلاشي خطوات أصدقائه، مختلطاً بالضحكات الصارخة التي سكنت الآن رقعة مظلمة داخل جمجمته.

فبينما غاب كنز بلاكبيرد عن الأبصار، بقي صدى ضحكاته سجناً أبدياً في عقل بيل ستانتون.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!