ابداعات

حفيد الفايكنج

زينب عبد الحفيظ محمد

“أرى أن الفقر لم يكتفِ، فبعث لنا المصائب لتلازمنا.” وأفسح لها للدخول، فدخلت مسرعة تنظر خلفها بترقب. شرع ماركن بإغلاق النافذة وقام بتهدئة بوب، ثم أشار لها بالجلوس، فجلست على كرسيه الذي كان يتوسطه منذ قليل. وعينا إيفا لا تكفان عن فحص الفتاة بغيرة. بدا جمالها تحت المصابيح المنيرة ملامح طفولية وبشرة صافية، بالإضافة إلى شعرها البني وقوامها الممشوق. لكن ما أشعل بها الغيرة أكثر هي طريقتها في الحديث وإيماءاتها وغرورها رغم حالتها والموقف الذي هي فيه.

زفرت الفتاة براحة عندما رأت أنوار السيارة تبتعد، فنظرت إلى ماركن وتمتمت بالشكر والامتنان. لم يُجب ماركن، بل باغتها بسؤاله: “من أنتِ؟” زاغت نظراتها وقالت: “لا أظن أنه يعنيك يا سيد. أنا ذاهبة على أي حال، وشكراً مُجَدداً على هذا المعروف.” احتدمت عينيه وقال: “ماذا يا فتاة؟ وهل تظنين أنه يوجد معروف بلا مقابل بهذه المدينة؟ أنتِ مَدينة لي.” وقفت بحدة وقالت: “حسناً، وماذا تريد مقابل هذا؟” وقف ماركن بدوره واقترب منها تحت نظرات إيفا. قال: “نريد المال.” فتحت الفتاة حقيبتها الباهظة وأخرجت قطعاً من النقود ووضعتها على الطاولة، ونظرت إليه بازدراء وقالت: “ها هو المقابل أيها الشريف.”

نظر ماركن إلى النقود وابتسم بسخرية وقال: “تفوح منكِ رائحة النبيذ المُعَتَّق، الثمين. نبيذ لم أشم رائحته سوى بحانة الدنماركيين ذوي الطبقة الأرستقراطية.” ثم اقترب أكثر، وأمسك خصلات شعرها وشمَّ هواءها المتطاير بجانبه وقال: “شممت هذه الرائحة مرة واحدة بحياتي، عندما انزلقت خلسة وأنا صغير إلى هناك لأرى النساء العاهرات. لكنكِ لم تبدي مثلهم. أظن أنكِ ثرية من مُلّاك القيادة. أخبريني من أنتِ؟” زفرت الفتاة بغضب وقالت: “لا أظن أنني أحتاج إلى غموضك اليوم يا هذا. دعني وشأني، فأنا لابد أن أذهب الآن.” وكادت أن تكمل، إلا أنها صمتت بخوف عندما التقطت طرقات على باب المنزل. تجمعت العَبَرات بعينيها. تمتمت بخفوت لم يصل إلى إيفا: “أرجوك، إن تكاتفتَ معي فلك ما تطلب.” ابتلع ماركن ريقه بزهو وهمس مردداً: “ما أطلبه؟” هزَّت رأسها بإيجاب. ضحكت عيناه، وكأن أحلاماً تتهيأ للولادة. يعرف أنها من العائلات النبيلة؛ يعرف كيف يُميّز بين من تربّى بالنعيم ومن دُفِنَ بالظلام المُفقَر. لا تبدو من فتيات الحانات العاهرات؛ ملابسها وحديثها وغرورها يوضحان أهميتها في هذا المستنقع الذي يَغرُز في قاعه.

اتجه ماركن إلى باب في أرضية الغرفة، وقام بفتحه بعد أن أبعد السجادة الصغيرة التي تغطيه. أشار للفتاة بالاقتراب، ثم قال: “هذا القبو صنعه أبي عند بناء المنزل لضرورة المواقف. اهبطي داخله.” ثم أشار إلى إيفا وقال: “وأنتِ أيضاً يا إيفا، هيا!” كانت إيفا تبدو عليها إمارات الغيرة والغضب، فدكَّت الأرض بعناد. زجرها ماركن.

أطياف الأحلام تجول بالغرفة وتُدغدغ طموحه الجياش نحو العلو. شياطينه تحوم بجانبه ليتصدى للمخاطر اليوم، وغداً يخلع برقع الفقر هذا وينال شيئاً من الترف. تنهد ماركن بهدوء محاولاً تقليل توتره، واتجه إلى الباب الذي ألَحَّ طارقه. ثم ادعى النعاس وفتح الباب رويداً بعينين شبه مُغْلَقَتَيْن، لكنهما اتسعتا بفزع عندما رأى ما خَلْفَه. سرب من الجنود يقودهم آشِرُهم الداهية: ماركنيوس، الضابط المُجنَّح بالشر. يعرفه ماركن تمام المعرفة؛ فدائماً يراه يجر خلفه النرويج ويُقْبِعُ ساكنيها تحت أقدام حثالة الدنماركيين التابعين لدواهي السويد. يضرب أشد الرجال بسوطه ويُكَمِّمُ ألمهم بحذائه. ثَقَّبَهُ ماركنيوس طويلاً، قارئاً إمارات هدوئه الخارجي. فماركن يعرف كيف يُروِّض هيئته إلى اللّاشيء، رغم أن بداخله معركة من القلق والخوف والأحلام، كُلٌ يتبارز على الصمود.

أخفض ماركنيوس نظارته، وطالعه إلى ملابسه المتسخة، فأيقن أنه من عمال منجم النحاس. استجمع ماركن رباط جأشه وقال بصوت جاهداً أخرجه مستقيماً خالياً من الاهتزاز: “هل هناك خَطْبٌ ما سيدي؟” رفع ماركنيوس يده الممسكة بلفافة تبغ سميكة، وطبَّق على مؤخرتها بشفتيه، وسحب منها كمية لا بأس بها من الدخان، ثم نفثه بوجه ماركن. أغمض ماركن عينيه بغيظ شديد وقبض على يديه بعنف ليهدأ. تحدث ماركنيوس أخيراً: “ابتعد من وجهي يا هذا!” وأشار للجنود أن يقتحموا المنزل، ففعلوا دون رفة جفن.

أزاحوا ماركن جانباً بحدة، وانتشروا بأركان المنزل ينقبون عن شيء. كان ماركن مُسترخياً تماماً. يعرف أنهم لن يستطيعوا الوصول لفتحة القبو، بل لم يخطر لهم أنه هناك قبو من الأساس. وشكر بداخله براعة أبيه في فن بناء المنزل وإخفاء أسراره، وجعلها غير قابلة للكشف. خرج الجنود بعد عدة دقائق بأيادٍ خاوية. قال أولهم لماركنيوس: “لم نجدها هنا أيضاً سيدي.” جزَّ ماركنيوس على أنيابه، مما أدى إلى ظهور عروق رقبته. حاول كبح غضبه، ثم أشار لهم بالمغادرة واتبعهم قبل أن يرمي نظرة مُحتقرة إلى ماركن، فبادَله الأخير بابتسامة مرحبة. أغلق ماركن الباب وزفر بارتياح حقيقي، وكأنه للتو أنهى حرباً وخرج منها مُغتنِماً خسائر العدو.

اتجه إلى القبو وقام بفتحه، فخرجت الفتاتان بوجوه مُتَعَرِّقَة، تلهثان من كتم الأنفاس. اتجهت إيفا إليه وقالت بلوم: “لماذا تُلقي بنا إلى الخطر من أجل هذه؟” كانت تُشير إلى الفتاة، بينما ترتعش روحها خوفاً من أن تكون أعجبته، وإلا لما كان ليرمي بنفسه بالمصاعب من أجلها. قالت الفتاة بشموخ رافعة الرأس: “أدعى سام.” نظر إليها ماركن مترقباً لبقية الحديث. فأردفت، مُحتلةً عينيه بنظراتها: “سام ابنة الوزير إميل فون هولم.” شهقت إيفا بدهشة شديدة واتسعت عيناها، بينما لمعت عينا ماركن. جلست أفكاره تُصفِّق لداهيتِه. ذكاؤه هو الثروة التي يمتلكها، لم تخب نظرتُه يوماً، لكنه لم يكن يعرف أن حظه المندثر سيقود ابنة وزير إلى رقعته الفقيرة، بل وتطلب العون منه.

لم يُبْدِ ماركن سروره ونظر إليها ببرود قائلاً: “سام إذاً.” وأردف وهو يجول الغرفة ذهاباً وإياباً: “ابنة إميل فون…” وتباطأ بقوله: “هولم.” وتابع بسخرية: “يا للشرف الذي أحاط بمنزلي!” تعرف سام أن هذا الماركن ليس بهيّن، وأنه مستغل، وبعد معرفته لَكِنْيَتِها بالطبع سيسيل لُعابُه وتزيغ عيناه. قالت: “ما هو طلبك؟ هيا أخبرني، لا وقت للمفاجآت!” لَثَمَ ماركن شفتيه السفلية بحقارة وقال: “لا، ليس بعد. أخبريني أولاً ما قصة هذا الضابط ولِمَ يتبعكِ؟” قالت بغضب: “ليس من شأنك!”

ابتسم ماركن بغيظ، وعدَّل ياقة قميصه المتسخة، وتخللت أصابعه خصلات شعره المنسدل على عينيه وقال: “لم يغادروا القطاع بعد، وأظن أن ماركنيوس متلهف للقياكِ.” ضربت سام بقبضتها الطاولة وقالت: “أنت مستغل وحقير! قال بجرأة فاضحة: ‘أنتِ مثيرة’.” التفتت إليه إيفا بحزن، وكأن مخاوفها تنكشف أمامها تباعاً، ثم ابتلعت غصّة علقت بحلقها وقالت: “ما بك يا ماركن؟ قُل ماذا تريد ودعها ترحل.” “ليس قبل أن تروي قصتها،” أجاب ماركن بصرامة. قالت سام بنفاد صبر: “انه اراد مواعدتي. وكنا منذ قليل مع بعضنا البعض نحتفل بعيد ميلادي، ولكنه حاول الاعتداء عليَّ وأراد اغتصابي. كان يريد أن يجعلني فِراشاً متسخاً ليدُوسَ بي كبرياء أبي، ويحتل على عاتقه مناصب أكبر. هيا أرجوك، قُل ما تريد.”

شرد ماركن قليلاً بابتسامة لا تنمُّ على أي خير، ثم نظر إلى إيفا نظرة عابرة، واتجه بعينه إلى سام وقال الجملة التي أفجعت الفتاتين، وجعلتهما تفقدان النطق: “أريد أن أتزوجكِ يا آنسة سام.”

لقد خرج ماركن من ظهر قومٍ بأكتاف صلبة وأعناق مستقيمة، رجال سحقوا ملح البحار وفجروا غضبهم على سطوح مياهها. كانوا محاربين وبحّارة أشداء، مُفَتَّلِي العضلات، كفوفهم كالصواعق الهالكة. مستكشفون حكموا المياه لأكثر من ثلاثة قرون، وأنفسهم كانوا ينفثونها أينما شاءوا. لو رأوا ما يدور الآن من ذل لأحفادهم، لكانوا أقاموا الدنيا. شعب مستعبد مُفقَّر تحت قبضة حكم الدنمارك. جينات الفايكنج لم تُدفن مع أجسادهم، بل تناقلت بالتوالي إلى أحفادهم، لكن القيود عرقلت اندفاعهم نحو الكبر، وسلاسل الحكم والجيوش والقمع قَيَّضَتْ وحوشهم، فغدوا كالأسود الجياع يزمجرون بصمت.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!