بقلم: ضياء علي الدعاس
ليس الرأس ما يُثقل، بل كل ما لا يُقال.
هناك، حيث تنحشر الصور القديمة، والعبارات المقطوعة، والأسئلة التي لم يُجب عنها أحد…تنبض ذاكرة لا تهدأ، لا تتوقّف، ولا تطلب الإذن.
كأن شيئًا ما يتكاثر داخل الجمجمة، ليس من لحمٍ أو عظم، بل من آثارٍ غير مرئية… لما ظُنّ أنه مر، ولم يمر.
ثمة من يمضون في الحياة بخفة، كأن الوجود واضحٌ بما يكفي لأن يُعاش دون حيرة.
لكنّ من ابتُلي بذكاء تحليل كل تفصيل، لا يملك هذه النعمة…فالذكاء ليس دائمًا قدرة… بل لعنة الرؤية الزائدة…
هو أن ترى ما لا يُرى، وتلتقط ما لا ينتبه إليه أحد، وتسمع في العبارات المألوفة رجع صدًى لشيء غائب، ناقص، أو مختل.
من قَل حظه من الذكاء، بدا له الوجود أقل غموضًا، ومضى.
أما الذي أُعطيه بفيض، فلا يمضي… بل يتوقّف، ويتأمل، ويتعثر بكل تفصيلٍ بسيط، لأنه يرى في أبسط الأشياء احتمالات لا تُحصى.
يستنشق الهواء، فيفكر بما لا يُقال؛يقرأ جملة عابرة، فيسكنه سؤالٌ لا نهاية له،ينظر في وجهٍ مألوف، فيتساءل عن كل ما لا يظهر عليه.
هؤلاء لا يرتاحون، حتى حين يرتدون قناع الراحة…
فالعقل عندهم لا يهدأ، لأنه لم يُخلق ليهدأ؛هو يعمل حتى في غياب الحاجة، يضيء حتى في وضح النهار، يطرق أبوابًا لا يعرف أين تقود، لكنه لا يستطيع إلا أن يطرقها
كأنهم خُلقوا وفي رؤوسهم مسرحٌ صغير، يعرض مشاهد لا تنتهي…فكرة تقفز فوق أخرى، صورة تجر ذكرى، وجملةٌ تُعيد صياغة الحياة كل مرة من جديد
ووسط هذا… لا أحد يراهم
يبدو عليهم الثبات، والنضج، وربما النجاح،
لكن الداخل ليس مرآةً واضحة..
بل زجاجٌ مضبب… تنعكس عليه صور كثيرة في وقتٍ واحد، ولا واحدة منها تشبههم تمامًا
إنّهم أولئك الذين يعجزون عن أن يمروا على الأمور مرورًا عاديًا؛ لا لأنهم يحبون التعقيد، بل لأن بساطة العالم لا تُقنعهم…لأنهم، كلما لمسوا شيئًا، شعروا بأنه يحمل خلفه شيئًا آخر…
فلا يكتفون
الذكاء هنا ليس تميزًا، بل نوعٌ من الغربة،
غربة في الرأس، في الوعي، في اللغة، في التفاصيل التي لا تسكت
وهكذا…
تمضي، ولا أحد يراك مثقَلًا، لأنك تتقن الوقوف؛ولا أحد يسمع ما في رأسك، لأن ضجيجه لا يحتاج إلى صوت
ولا أحد يسألك: هل تود أن تصمت… أو أن تُصمت هذا الذي فيك؟
لكنك تعرف…
أنك، في اللحظة التي تتوقف فيها عن التفكير، لن ترتاح، بل ستخون نفسك.
ولهذا، تمضي…
تواصل الإصغاء لهذا الضجيج، لا لأنه جميل،
بل لأنه الشيء الوحيد الذي… لا يسكت.
