ابداعات

الفتاة التي تشبه ظلها

الجزء الأول

 

 شريف جلال القصاص

 

كانت أمُّها تقول لها دائمًا وهي تمسح شعرها الكستنائي الصغير:

“لا تخافي من الظلام يا إيميلي… فالخوف نفسه من الضوء هو ما يصنع الظلال.”

لم تكن الطفلة تفهم المعنى، لكنها كانت تشعر دومًا بأن شيئًا ما يتحرك في أطراف الغرفة، كأن الظلمة نفسها تُنصت لأنفاسها.

 

وحين توفيت أمها وهي في التاسعة، صار والدها يقسم أنه يسمعها تتحدث ليلاً مع أحدٍ لا يراه أحد سواها. قال ذات مرة، حين رآها تبكي في الحديقة ثم تسكن فجأة:

“كأن لي ابنتين… واحدة تبكي، وأخرى تحرسها.”

 

كانت إيميلي هادئة أكثر مما يحتمل عمرها، وفي عينيها اتساع يشبه من رأى ما لا يُقال. لم يكن أحد يجرؤ على مضايقتها مرتين، كانت نظرتها وحدها كافية لتُسكِت الألسن، كأنها تُرسل من مكانٍ آخر قوة غامضة تفرض النظام حولها.

 

كبرت في مدارس داخلية باردة، تتبدّل فيها الوجوه بسرعة، لكنها لم تستطع أبدًا أن تتبدّل مثلهم، كانت تميل إلى النظام المفرط: ترتيب الكتب حسب ارتفاعها، وتدوين كل شيء حتى مواعيد الصمت. قالت عنها زميلة يوماً:

“إنها لا تنام… إنها تضع نفسها في حالة انتظار.”

 

كانت أمها ممرضة في مصحة عقلية، تُتهم بممارسات غريبة لتهدئة المرضى، قيل إنها كانت “تنظر إليهم فقط، فيسكنون”، لكن آخرين همسوا بأنها لا تهدئهم وحدها، بل يشاركها ظلٌّ يحمل عنها الألم. رحلت الأم، وبقي في ابنتها شيء من تلك النظرة، وذلك الصمت، وربما ذلك الكيان الكامن في رحم روحها، يولد مع كل لحظة ضعفٍ أو خوف.

 

المدرسة التي تبتلع الأسرار

حين التحقت بمدرسة سان ميشيل الداخلية لتعليم بنات العائلات الثرية، لم تكن تبحث عن وظيفة، بل عن سكون. المكان كان من الطراز الفيكتوري، بأروقة تمتد كأنها لا تنتهي، ونوافذ تعكس وجهًا لا تدري إن كان وجهها أم لا.

استقبلتها المديرة جوليا ديفون بصرامة مصطنعة وقالت وهي تقدم ملفًّا سميكًا:

 

“ستكونين مسؤولة عن النظام العام للفصول المتوسطة… وعن السلوك، لا الدروس فقط. أريد أن أرى النظام ينساب في أروقة المدرسة كما ينساب الضوء عبر النوافذ.”

هزّت إيميلي رأسها موافقة، وهي تدرك أن هذا الدور سيجعلها قريبة من الطالبات… وقريبة أكثر مما ترغب جوليا نفسها.

 

كانت جوليا امرأة متغطرسة تدير المكان كأنه مشروع تجاري، وقد وقّعت اتفاقًا سريًا مع رجل يُدعى مستر غراي، مالك شركة دوائية ناشئة، يستخدم المدرسة حقلًا لتجارب على عقار محفّز للذكاء، مقابل دعم مالي سخي. تُعطى بعض الطالبات حبوبًا يسمينها “مكمّلات”، لكنها كانت تُسبب لهن إغماءات وتغيرات في المزاج.

 

منذ الأسبوع الأول، بدأت إيميلي تلاحظ ذلك. تراجع السجلات الطبية، تسأل عن تلك الحبوب، عن الفحوصات الليلية، وعن سبب فقدان بعض الطالبات ذاكرتهم القصيرة. كانت تقول بهدوءٍ غاضب:

“العلم لا يُصلح ما أفسده الطمع.”

 

أول ظهور للظل

في الأسبوع الثالث، حدثت “حادثة الحصان”، فرس المدرسة المفضل أصيب بالهياج وكاد يدهس إحدى العاملات، هرعت المديرة إلى الفناء لتجد العاملة تبكي وتقول:

“لقد أمسكت الآنسة إيميلي باللجام وهمست للحصان فهدأ، رأيتها بعيني!”

لكن في اللحظة نفسها، كانت إيميلي تشرح الدرس داخل الصف، والطبشور في يدها، والطالبات يرينها ويسمعن صوتها، قالت إحداهن لاحقًا:

“ظننت أن هناك اثنتين منها.”

حاولت جوليا تفسير الحادث بقولها إن الحصان خاف من ثعبان صغير، لكن الشك بدأ يتسلل، الظلال صارت تُرى في الزوايا، وإيميلي نفسها بدأت تتجنب المرايا وتنام جالسة.

 

الطالبات… بين الحب والخوف

كانت علاقتها بالطالبات معقدة، بعضهن أحبّها ووجد فيها طمأنينة الأم الغائبة، وبعضهن كرهها بشدة، كأنها مرآة تكشف ما يخفين، أشهرهن كانت ماريان، فتاة مشاغبة، ذكية ومغرورة، تكره النظام وتحب التحدي.

في أحد الأيام، تجاوزت ماريان حدودها وخرجت من الصف دون إذن بعد أن سخرت من طريقة إيميلي في الحديث.

 

لم تلحقها المعلمة، اكتفت بقولٍ هادئ:

“حين يفرّ المرء من النظام، يلحقه ظله.”

وفي المساء، وُجدت ماريان في الممر المؤدي لغرفة المرآة، مصابة بكدمات غريبة. تقول وهي تبكي إنها رأت “إيميلي أخرى” تنظر إليها بغضب وتشير بيدها وكأنها تقول لها:

“عُودي إلى مكانك.”

أُغلقت الحادثة بصمت، لكن الطالبات بدأن ينظرن إلى معلمتهن بارتباك:

 بين من تلمس فيها الأمان، ومن تراها نذيرًا غامضًا.

إيميلي كانت تمضي الليل بين ندمٍ وصراعٍ داخلي، تهمس للمرايا:

“لا أريدك أن تؤذيهم… أريد فقط أن يفهموا.”

وفي انعكاس الزجاج، كانت ترى أحيانًا وجهها الآخر يبتسم بسخرية، كأنه يقول:

“الرحمة ضعف… وأنا قوتك التي لا تعترفين بها.”

 

بداية الصراع

حين اكتشفت جوليا أن مستر غراي يهدد بسحب دعمه المالي وفضح الاتفاق، اجتمعت مع مساعدتها مادلين في مكتبها المظلم.

 

قالت جوليا بحدّة:

“إيميلي تعرف أكثر مما ينبغي… يجب أن نوقفها، أو نستغلها.”

وفي تلك الليلة، كانت إيميلي تشعر بتوترٍ وغضب، حاولت تهدئة نفسها خوفًا من أن يفلت ظلها، لكنها فشلت.  

 

خرجت إلى الممر تتنفس الهواء البارد، وهناك سمعت صوت جوليا في غرفة الممرضة:

“لن أسمح لأحد أن يفسد ما بنيته… ابحثي عن سببٍ طبيٍ يبرر ما حدث للفتاة، لا أريد شبهات حول موتها.”

اقتربت أكثر، فرأت ماريان على السرير، تتصبب عرقًا من الحمى، والممرضة تلهث في محاولة لإنقاذها. لكن الأرض انزلقت بها فجأة، واصطدمت بالطاولة فسقطت زجاجات العقاقير، وتبعثرت الأوراق.  

 

صرخت الممرضة، وهرعت جوليا، لترى المشهد: إيميلي على الأرض، في يدها مسحوق أبيض، والفتاة ممددة بلا وعي.

انتشر الهمس كالنار:

“إيميلي هي السبب…” “هي من كانت تُعطي الطالبات العقاقير!”

في تلك اللحظة، دوى صوت ارتطام من الممر المؤدي لغرفة التجارب القديمة، وارتجّ الجناح كله على صرخةٍ واحدة، لا يعرف مصدرها 

…يتبع

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!