بقلم: ضياء علي الدعاس
في غزة، لا ينتهي النهار بانكسار الشمس، ولا يبدأ الليل بطلوع القمر؛ بل حين تُضاء الكاميرا في وجه الموت، حين يرفع صحفيٌ عدسته بدل البندقية ليقول: إن الحكاية ما زالت تُروى…لم يكن الصحفي هناك ناقلًا للخبر، بل شاهدًا على زمنٍ يُمحى فيه كل شيء إلا الحقيقة.
يركض بين الركام، يكتب على الهواء المتطاير من بين الأنقاض، ويعلم أن رصاصته ليست من نار بل من ضوء، وأن الصورة قد تُخلد أكثر مما تُخلد الأجساد
منذ أن وطأت اقدام المحتل هذه الأرض وهو يحاول أن يُقنع العالم بأن الذاكرة تُقصف، وأن الحكاية يمكن أن تُمحى بالدخان، لكنه نسي أن ثمة من يكتب بالدم لا بالحبر، من يوثق بالصبر لا بالكلمات فقط… وحين يُستشهد بطل منهم، لا تُطوى الصفحة، بل تُفتح أخرى بالاسم نفسه، بالعين ذاتها، بالفكرة التي لا تموت…كأن الشهادة في فلسطين ليست موتًا، بل دعوة جديدة لليقظة..كلما خبا صوت، وُلد آخر، وكلما انطفأ ضوء كاميرا، اشتعلت عشرات غيرها.. إنهم يتناوبون على نقل النبض كما يتناوب الحراس على أسوارٍ لا تنام
الاحتلال جاء منذ البدء حاملًا أوهامه القديمة، وخرائطه المرسومة على جلود الآخرين، يحلم بإقامة دولة فوق جثث الذاكرة.. ومنذ الأزل وهو يحاول أن يجعل من وجوده أمرًا عاديًا، أن يسرق اللغة والتاريخ والسماء، لكنه لا يفهم أن الأرض تعرف أصحابها، وأنها تحتفظ بروائحهم في التراب كما يحتفظ البحر بأسماء الغرقى؛حاولوا تشتيت الجيل، وشراء العقول، وتبديل المعاني، لكن القضية لم تكن صفقة تُبرم، بل جرحًا مفتوحًا لا يُشفى إلا بالحق…
في كل لقطة تُبث من غزة تختبئ فلسفة كاملة..طفل يجلس على ركام بيته بابتسامة تربك المنطق، وأم تمسك صورة ابنها كأنها تمسك قلبها، وصحفي يكتب تحت القصف لا ليسأل من بدأ الحرب، بل ليقول إن الكلمة ما زالت قادرة على الصمود؛ في كل مشهد يولد معنى جديد للحياة والمقاومة، وكأنهم جميعًا يتواصون ببعضهم لا تتركوا الكاميرا تسقط، فالحقيقة تحتاج من يحملها وإن ثقل وزنها
قال درويش ذات حرب:
ستنتهي الحرب… ويتصافح القادة،
وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد،
وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب،
وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل…
لا أعلم من باع الوطن،
ولكنني رأيت من دفع الثمن
ذلك الثمن لم يُدفع مرةً واحدة، بل يُدفع كل يوم.. من وجع الأمهات، من عيون المراسلين، من صبر الذين بقوا كي لا تموت الحكاية..فالحرب لا تُختصر في انفجار، بل في صمتٍ طويل بعده، في انتظارٍ يعلق القلب على أسلاك الأمل
وهكذا، حين يُستشهد الصحفي، لا ينتهي الخبر، بل يبدأ من جديد..تنبت من بين حطام عدسته كاميرا أخرى، تلتقط نفس المكان، وتنطق بنفس الوجع، لكن بصوتٍ مختلف.. كأن الحقيقة تعرف طريقها مهما تاه من ساروا بها.
القضية ليست ورقة على طاولة، بل نهرٌ من الإيمان يسري في العروق، لا يجف، ولا يُباع، ولا يلين
وفي النهاية، حين يسكن الغبار وتخمد الأصوات، لن يتذكر الناس أسماء القتلة، بل وجوه من وثقوا وجعهم كي لا يُنسى…سيبقى كل شهيدٍ من هؤلاء الصحفيين شاهدًا لا يموت، صوته في الأثير، وصورته في ذاكرة العالم، ودليله أن الفكرة التي تُروى بالصدق لا يمكن اغتيالها، وأن العدسة حين تُوجه إلى السماء، تلتقط وجه الحقيقة مهما كان مغطى بالدخان
وكما قال غسان كنفاني يومًا ما:
تسقط الأجساد لا الفكره .