لُجين سامح
في قاعة الانتظار، وأنا أحمل رضيعي على يديّ، واهدهد قلبي الفقيد، الثكلى على الجثة أمامي، وانتزع الصرخات من صدري انتزاعًا لتخرج على هيئة بكاءٍ صموت..
يأتيني صوت الطبيب: لقد فقدنا المريض، إثر سكتة قلبية، أنا آسف.
كنت أشعر، قبل أن ألمس يديه الباردتين، قبل أن أرى شفاهه المصبوغة بزرقة السماء، كنت أشعر منذ اللحظة التي ابتسم فيها لي صباحًا، اتذكر صوته، يرن داخل أذني:”-يا حبيبة الوقت ما بكِ؟
ـ أقلق عليكَ يا عزيزي، يراودني شعور سيء، أيجب أن تذهب؟
ـ أنا ابن العلم يا عزيزتي.
ـ لكنك وعدتني أن لا أفقدك! وحياة عمر يا أبا عمر.. ـ ـ لكل أجل كتاب يا سماء، لا تشغلي بالك عليّ، أحبك.”
أشعر بدفء قبلتهِ على جبيني، أشعر بعينيه وهي تخترقان الزمن، الفؤاد المنخلع، والروح العاشقة.. أشعر بأنه ما زال حيًا، “تسمعني يا أبا عمر؟ تسمعني يا حبيب العمر؟ يا خليل الروح؟ تشعر بي؟ بالرضيع على يديّ؟ رملت وأنا دون الثلاثين يا صابر.. رملت وأنا لم استطع الشبع منك، ماذا أفعل من بعدك قل لي؟”
خرجت مني الكلمات بلا حساب، بلا عدد، وانهمر شلال التعب على وجهي، عنقي وملابسي، مات بسكتة قلبية إذن ؟
يأتي الصوت من خلفي: أحسبكِ صابرة يا أم عمر.. نعم الصديق كان، رحمه الله
نظرت نحوه، أحمد بهيئته الدائمة، عينيه القويتين، وسهام نظراته الحادّ، وشعره الأسود الذي يزيد على قوته قوة..
“آمين.”
“ألم يخبرك أين كان؟”
نظر حوله، همس في خفوت:”لقد قتلوه..”
“من؟؟”
خرج الفزع من مقلتي والتف بجسدي، وبدا كل شيء حولي غارقًا في البكاء، “لا أعلم.. لكنه قتل، مسمومًا على الأغلب.. ليس معي دليل، ولن يتركوا دليلًا ورائهم، وشهادة الوفاة مزيفة.” شهقت فزعًا للمرة الثانية، ما الذي أريده من مهندس نووي؟ أن يبقى معي طوال العمر؟ أن ننجب البنين والبنات ونعيش في عش صغير دافئ!
انتقل البكاء إلى فورة من الغضب، ينتهي اليوم، يقدم المعزين، رئيسه في العمل، أصدقائه، وأنا أقف كفزاعة، تحركها الأفكار كيف تشاء، تحدثت إليه للمرة الأخيرة:” ما الذي يحدث يا صابر؟ من قتلك أخبرني؟ من يتم ولدك! من جعلني أركض في المشفى كعجوز مجنونة، ألك ثأر يا عزيزي؟ أبتلعتك الغربة على مهل؟ أأخذتك مني أم الوطن؟ .. أليس لنا حق الحياة يا ناصر ؟ أليس لنا حق الحب!”
قبلته على جبهته، وانفلتت دمعة مني، كانت الكدمات تغطي رأسه، لكن لا طب شرعي ليفحص الجثة، سكتة قلبية وانتهى.. حاولت مرارًا أن أصل للطبيب، بلا جدوى، رئيسه في العمل.. كان غارقًا في الحزن، بدت عينين تشيان بسر لا يخفى، إنه قتل.. حتمًا.
تمر أيام العزاء، أقف في شرفتي، انظر للمساحة الخضراء حولي، الهدوء الممتد أمامي، وأتذكر القاهرة، صوت الباعة ورائحة الفطور، طعم الشاي، والغبار، أمي وأبي، والمذياع.. تنهدت وشعرت بأن حزني يقتلع حلقي، أأعود؟ إلى بلادي بعد خمسة أعوام أرملة؟ أأعود وأقف أمام أم صابر وأخبرها أن ابنها قتل غدرًا؟ أأعود أم آخذ حق صابر، كيف إذًا وأنا مجرد امرأة؟ صحفيّة لا تسمن ولا تغني من حقيقة؟
أعمت الأسئلة ذهني، حتى انتشلني صوت الباب، “من؟” “ديفيد.. رئيس صابر.” .. في الداخل مع كوبي القهوة، وبكاء عمر، جلس ديفيد أمامي، وهو يخبرني:”أرغب في مساعدتكِ، الطاقم يضيع مني، صابر.. كان أفضل من لدينا، لا أحد يرغب في مساعدتي على اكتشاف الأمر.” “مهلًا ماذا تقصد؟”
يتبع..
بينما عيناه مثبتتان على اللوحة خلف ظهري، شوارع القاهرة القديمة والباعة، ابتسم وقال:” تبدو جميلة..”
“اللوحة أم القاهرة؟”
“كلاهما.. كأنها جزء من دراما.”
“دراما حزينة.. “
تقابلت عينانا لبرهة، حتى أكمل:” منذ أسبوعين أرسل لي صابر ملفًا، مرفقًا برسالة..”
أراني هاتفه:”إنني مراقب هذا ما أعلمه يقينًا، هذا آخر ما توصلت إليه في بحثي، أرجوك لا تدع أحدًا يمسسه، احرقه إن شئت، أو مزقه أو أيًا يكن.
أو فقط احمل أمانته، ودع صوتي يصل إلى العالم.”
“إذًا؟” قلت وصوت الحزن يتهتك في صدري، ويعتصر حنجرتي، ويذرني امرأة نافقة، بلا ملامح، لماذا أنت؟ لماذا أنت يا صابر؟
“لقد عمل على البحث طوال ثلاث سنوات، إلى أن اكتشف أمرًا منذ ثلاثة أشهر أو يزيد، أخبرني به سرًا دون مزيد من التفاصيل..
“لا أحد أتم هذا البحث من قبل” قالها علانية، أتذكر الرجفة في صوته آنذاك، حملت الأمر على محمل المزاح، لكي يخفت قلقه.
وبحثت في الأمر، جميعهم.. ماتوا، يا للصدفة، علماء يموتون دفعة واحدة بعد بحث واحد؟”
أكمل بعد أن ارتشف القليل، وبدت عيناه الخضراوتين تتموجان في لحن حزين:” نحن في مركز الأبحاث لدينا قواعد، هناك أشياء لن تمس، غاية في السرية، وأخرى لها نصل حاد قد يقطع رأسك إلى نصفين.. احتفظنا بسرية المعلومات إلى الآن. لكن حدث ما منذ أربعة أعوام قلب الكيان رأسًا على عقب..”
انتبهت بكل جوارحي، وبدا الأمر كما لو أنها رواية جريمة، غموض، لا تمسسني بسوء، لا تلقي إلي بالتهلكة، عدا تفصيل واحد صغير.. زوجي بطل ثانوي.
“في مختبر السموم، والذي لا يقترب منه أحد، وُجد خمسة علماء وهم يصارعون من أجل أنفاسهم الأخيرة، لم ينج أحد ليخبرنا ما حدث، آخرهم كان في المشفى لمدة يومين، وحين بدأ يفيق قتل غدرًا بجرعة دواء زائدة … واحذري أين طبيبه؟ “
“اختفى بالطبع..”
“لم أفهم تمامًا.. ما الذي يجعل صابر جزءًا من تلك الرواية؟”
“لقد كان هناك..”
انفجرت ملامحي، انقلبت على عقبيها، وتناول الخوف محطته الأخيرة على عيني، خرج صوتي عابثًا مرتجفًا..
“ما .. ما الذي تقوله؟”
“هو الشاهد الوحيد، لقد كان هناك ذلك اليوم، ولم يكن هناك غيره، تلقى رسائل تهديد على مدار عام كامل، بأنه إذا نطق سينتهي أمره..
وذلك ما أكد للطاقم أنها قضية قتل، ليس موتًا بالخطأ.. وإلا فأي عالم يسمم نفسه عمدًا في غرفة يعلم أنه لن يخرج منها حيًّا؟”
“ألم يخبرك تفاصيل عن الأمر؟”
” قال بأنهم اجتمعوا في غرفة الطعام، وتلقى كل واحد منهم رسالة على حدى، تفرق كل منهم، وبقي الوحيد في القاعة.. لم تصله رسائل.
وحين شككت بالأمر، من القاتل الذي سيترك شاهدًا وراءه ؟
تذكرت بأنّه هو الوحيد الذي بقي يوم أجازته، الجميع كانوا في أجازة، عدا الطاقم الذي قتل..”
“لم يكن ضمن القائمة إذًا؟!”
“أظن ذلك..”
شعرت بأن العقد انفرط، كلما حاولت تجميع خيطه وترقيعه، تعقد وتناثرت ملامحه، أقتل لأنه شاهد؟ أم قتل لأنه باحث؟ أم كلاهما معًا! أم لشيء ثالث أجهله..
غزا عقلي التعب، ولم أعد أعلم شيئًا، شعر ديفيد بذلك فأكمل:” إنني هنا لأبحث معك عن الأمر، لقد أخبرتك بما لدي، ربما تبحثين في أوراقه، أو تعلمين شيئًا..”
صمت هنية وأكمل:”أنت صحفية أليس كذلك؟”
“نعم.. أحاول أن أتذكر ما حدث، لكن ذاكرتي تخونني.”
“لا بأس، بإمكاننا أن نبحث عن الأمر معًا، أنت معي؟”
“بالتأكيد، لكن لماذا؟”
“لماذا؟”
“لماذا تبحث في أمر واحد من طاقمك؟ أليس لديك غيره؟”
“لدي بالطبع، هو أيضًا جزء منا، ونحن جزء منه، ما يودي به يودي بنا عن قريب، لا تنتظري من نار اندلعت في بيت أن تحرق شخصًا واحدًا بينما هناك عشرة غيره..”
“أفهم الأمر..”
أعطاني بطاقة عمله، ودعني بابتسامة يشوبها القلق بعد ما اتفقنا على أمر البحث، سأجد من قتلك، وعدًا علي يا صابر..
في الداخل، وبينما عمر يعزف سيمفونية البكاء كالعادة، لمحت تمثالًا جوار الشرفة، ما الذي جاء به إلى هنا؟
تمثال طفل صغير؟ بخلاف.. أنها غارقة في طلاء أحمر، اقتربت منه..
أعلم يقينًا، هذا ليس لي، ولم أره قبلًا، حين تلمسته بيدي، بدا السائل لزجًا، وانبثقت رائحته، إنها دماء، حتمًا دماء!
وضعت يدي على صدري، وشعرت بالهواء ينسحب من رئتيّ.. الأرض تميد بي ورأسي يدور، وعيناي تغوصان عميقًا في الظلام..
يتبع..