ابداعاتقصص

..بين ماضٍ، وحاضر

 ✍⁩بقلم / انتصار عمار

كل إنسان منا يحمل بين جنباته ماض، وحاضر يقتسمان فيه، بل ويتصارعان ، أيهما سينتصر ؟

 

 

فمنا من يحيا حاضره دون ماض يلتفت إليه، ويمضي قدمًا نحو تطلعاته، ويصبو إلى تحقيق ذاته.

 

 ومنا من يحيا ماضيه آلاف المرات، يحياه واقعًا مريرًا، 

ويظل يعيش على ذكريات هذا الماضي، ويدفن نفسه حول أنفاسه، ويتقوقع داخل سراديب أحداثه.

 

 

ويحبس ذاته خلف أسوار ذكريات ذلك الماضي، فأحدنا ينتصر حاضره على ماضيه، والآخر يظل فريسة، تنهشه أنياب الماضي المؤلم .

 

كانت طفلة صغيرة، بريئة الملامح، كثيرة التفكر والتأمل، خاصةً فيما يدور حولها من أحداث، وبالأكثر فيما هو قادم.

 

فقد كانت دومًا تخشى المستقبل بكل ما هو آت به، تلك الطفلة ذات الضفائر المجدولة المسدولة على ظهرها، هذه الضفائر التي حملت بين طياتها نسمات زمن جميلٍ سافر عبر خطوط الزمن.

 

 وخصلات تحمل داخلها توجيهات تربية صارمة؛ فهذا حرامٌ، وهذا عيب، وهذا لا يجوز، فهذه الطفلة الصغيرة ذات السبع سنوات من عمرها، كانت تحيا براءة عالمها الصغير، براءة ممزوجة بخوف.

 

 خوفٍ من أن تُخطئ، فتنال منها يد العقاب من أهلها ، وكان والدها رجل مسن، في الخمسينات من عمره، ووالدتها تصغره بعدة سنوات، لكن هذا الفارق الكبير في العمر، لم يكن يومًا ليشغل تفكير هذه الطفلة.

 

ولقد كان والدها رجلًا حازمًا،شديدًا، وكانت أمها أشد حزمًا، بل وأكثر صرامة، فكانت الطفلة تحيا، وأنفاسها محاطة بسياج قانوني، لا أسري.

 

 

وفي ذات يوم عادت الطفلة من مدرستها فرحةً، تتمايل ملامح وجهها رقصًا من شدة السعادة ،حيث أعطتها صديقتها بالمدرسة، وجارتها بنفس الحي زجاجة مانيكير (طلاء الأظافر).

 

 وفجأة وعلى غير توقعٍ، باغتتها خيبة الأمل حيثما أخذ والدها بزجاجة المانيكير، وألقى بها من البلكون، ونهرها بشدة على هذا السلوك، وكأنها ارتكبت جُرمًا.

 

 ولم يكتف الأب بهذا فقط، بل صاح بأمها، وناداها معاتبًا إياها ؛أرأيت تربية ابنتك ؟ انظر إلى ما أتت به، وكأنه يستنكر ويستهجن ما فعلته تلك الطفلة الصغيرة، التي من حقها أن تصافح أنفاسها نسمات البراءة.

 

 وما كان من تلك الطفلة سوى أدمعٍ تحتضن وجنتيها، وتعجب يسكن عينيها، وفكر يدور بمحيط رأسها؛ ماذا فعلتُ؟ هل أخطأتُ؟ هم يعلمونني، ويعلمون كيف هي تربيتي وأخلاقي.

 

لم يعاملونني هكذا ؟ لم يقسون علىَّ لهذا الحد ؟

 

 

ومرت الأيام والشهور، وكانت تلك الطفلة تحيا، وعالمها الخاص بها، حيث تذهب صباحًا إلى المدرسة، وبعد أن تنهي يومها الدراسي.

 

 

ثم تعاود الرجوع إلى بيتها بعد إنتهاء يومها الدراسي، حيث واجبات المدرسة والدروس.

 

كم هي بنت مجتهدة، منظمة، دقيقة جدًا، ومرتبة، تكره الفوضوية، والأشياء غير المنمقة، وفي يوم من الأيام كانت تلعب تلك الطفلة في الشارع مع جارتها، والتي من نفس عمرها أمام المنزل، وكان أمام منزل تلك الطفلة مجموعة من مواد البناء (رمل ؛أسمنت ؛….)حيث كان والدها يعد لهم طابقًا علويًا، ليسكنوا فيه. 

 

وفي هذا اليوم لم يأت عمال البناء ليواصلوا عملهم، وقامت جارتها باللهو واللعب فوق هذه الرمال، تُرى ماذا جرى بعد ذلك؟

 

ماذا تتوقع عزيزي القارئ أن يحدث ؟ 

 

 

إليك ما حدث بالفعل؛ هبطت الأم درج سلم البيت سريعًا، وكأنها وثبة عداءٍ ماهر، وفي ثوانٍ خاطفة قامت بإشعال البوتاجاز، وتسخين ملعقة الشاي الصغيرة، ثم وضعتها على يد ابنتها الرقيقة، فحرقت يد الطفلة النار وتركت أثرًا، وجُرحًا غائرًا بجلد الطفلة.

 

مما انعكس سلبًا على نفسيتها، كم كان هذا مؤلم، قاسي لدرجة لا توصف، صرخات هذي الطفلة لاتزال عالقةً في مسامع المحيطين.

 

وداخل هذه الطفلة تساؤلات عدة؛ أهذه حقًا أمي؟ وأنا رغم رقتي وطيبتي ماذا فعلت لأنال ذلك العقاب الرادع القاسي ؟

 

 

ومن الحزن حقًا أن تعلم عزيزي القارئ ما هو سبب ذلك العقاب الحاد، الذي يرتدي قناع الوحشية؛ فلقد عاقبتها أمها لأن جارتها قامت باللهو واللعب فوق الرمال التي أعدت لبناء الطابق العلوي من البيت.

 

هذا وإن كانت البنت حقًا أخطأت حينما سمحت لجارتها باللهو على الرمال، تُرى هل من الإنصاف والعدل أن يكون الكي بالنار هو العقاب الأمثل الذي تستحقه تلك الطفلة البريئة ؟

 

 

مما لاشك فيه كل هذه المواقف تركت أثرًا سيئًا بنفس تلك الطفلة، وظلت تنغلق على ذاتها وتحيا فقط، وعالمها الخاص بها.

 

 

 ورغم حزم والدها، إلا أنها كانت تحبه جدًا، وكانت متعلقة به كثيرًا، وكانت جلستها دائمًا معه، وكان دومًا لسانه رطبًا بذكر الله تعالى.

 

 

ومرت الأيام، وتوالت السنون، والحياة كما هي مريرة قاسية؛ ممنوع الخروج مع الأصحاب، أو المذاكرة مع أحد الصديقات، ممنوع تبادل الزيارات مع زميلات المدرسة، أو حتى الأقارب.

 

كانت هذه الطفلة تحيا كابوسًا يوميًا حتى أنها كانت تنتابها أحلام مزعجة تزوروها كل ليل، وظل هذا الخوف يشكل عائقًا نفسيًا لدي هذه الطفلة لدرجة أنها أصبحت تحس حالها أقل من زميلاتها، وبدأت ثقتها بنفسها تهتز شيئًا فشيئاً.

 

 

ورغم مرارة الحياة، وثوبها الأسود الحالك التي كانت دومًا لا ترتدي سواه، إلا أنه ازداد ليلها ظلمةً حينما زارها القدر ذات ليلة، عائدًا بوالدها المريض من المستشفى.

 

 

وقد تعافى تمامًا من جراء عملية أجريت له، كانت عملية تفتيت حصوة بالكلى، وكانت عملية صعبة برأي الطبيب المعالج، حيث كان والد الطفلة مريض بمرض السكري، وكان الطبيب يرى صعوبة إجراء عملية مثل هذه لمريض السكري،لكن والدها أصر على أن يجري له الطبيب هذه العملية.

 

 

فلقد كان إيمانه بربه أقوى من أي شئ، وكانت ثقته بالله كبيرة، وبالفعل أُجريت له العملية، ونجحت، وتعافى والدها تمامٌا.

 

 

 وصرح له الدكتور بالخروج من المستشفى، وعادت رايات السعادة ترفرف على المنزل، كحمامٍ يلقي بحب الفرح بأرجاء منزلنا، وظلت طيور السماء تزغرد فرحًا.

 

 

وما لبث أن استلقى والد الطفلة على سريره، وسرعان ما استراح جسده، وإذ بجدران البيت تنوح وتئن حزنًا، وتصيح الأم على حين غفلةٍ قائلةً؛ مات أبوكم، أبوكم مات.

 

 

والطفلة تقف صامتةً، لاحراك، ذهول فقط يتحدث، يتسائل ؛ماذا يجري ؟

ترى عينيَّ والدها تزيغ يمينًا ويسارًا، وكأنه يودع الدنيا بأنفاسه الأخيرة.

 

 

ويودع معها كل شئ، 

لم تكن الطفلة كبيرةً لهذا الحد، كي تعي ماذا يحدث، وماذا يدور !

 

وخرجت الأم لبلكون البيت، وإذ بها تصرخ بصوتٍ عال، مات زوجي، مات زوجي،وكأن صوت صراخها يدعو الناس لمأثم عزاء.

 

 

والبنت تبكي بصمتٍ مدوي، فهي بطبيعتها خجولة جدًا، وما كان منها مع البكاء الشديد والنحيب والحسرة والألم، إلا أنها أمسكت بيد أمها، وخاطبتها حينما كانت تصرخ، وقالت لها ؛ لا تصرخ يا أمي، ولا تقول أبي مات ،لا تقول.

 

 

الأرض تدور، وكل شئ يسير ويتغير، والأم تصرخ، وتوافد الجيران، وعلم الأهل، وأصبح البيت سرادقًا للعزاء، كل هذا يدور والبنت لا تملك مع دموعها الغزيرة، سوى الرفض القاطع لفكرة أن باباها قد رحل بالفعل.

 

 

كان هذا الحدث الجلل، والمصاب الهادم له عظيم الأثر بنفس تلك الطفلة الصغيرة، التي ألقت الأقدار على كتفيها هموم الوحدة، والأسى.

 

و كبرت الطفلة، وصارت بالصف الإعدادي، وتحملت المسئولية مبكرًا، وعانقتها أحضان المآسى، وسكنتها الأحزان الدفينة.

 

 

مما زادها إنغلاقًا وانطوائية، وكبرت البنت وظلت تفكر أكثر وبإمعاٍن في كل ما يجول بالحياة من حولها، وكأنها ناقد سينمائي، ينتقد فيلمًا يعرض عليه، ولكنه فيلم طويل.

 

 

 له بداية، ولكنه ليس له وقت محدد، فيلم لا تنتهي أحداثه، تتعدد أبطاله، وتتداخل عناصر الحبكة الدرامية فيه، لكن لا أجل له ،ممتد كنهاية ملحمة سُطرت عبر تقاسيم الزمن قرونًا، وقرونًا.

 

 

 

كل حدث بهذا الفيلم الحياتي ترك جُرحًا غائرًا بقلب هذه البنت، إلى أن كبرت واشتد عودها، وحققت ذاتها، وقامت ببناء بنيانها، وتتطايرت صحف هذا الماضي، وذهبت مع رياح الذكريات، فما بقي منها سوي ضحكات الطفولة البريئة التي تخترق جدارن التفكير، كلما اشتاقت البنت لزمن سافر بعيدًا ورحل.

 

 

كل منا يملك ماضيًا، سواءً كان حلوًا أم مرًا، ومن المحزن أن نطوي أنفسنا داخل سراديبه القاحلة، والتي لا تثمر إلا أدمعًا وعويل.

 

ولكن الأجمل أن نكون نحن من يصنع الماضي، نختتمه بما يليق بنا، ولا نجعل من أنفسنا أداةً هشة بين يديه، فلا بد أن تكون أنت الأقوى.

 

ولا تترك ذاتك رهينة خوفك من المجهول، أو حتى الخوف من القائم، والراهن، استعن بالله، وعش حياتك كما تحلو لك، طالما كانت طوع إرادة الله ، ووفقًا لأوامره، ونواهيه.

 

لا تكن أنت القاضي، والجلاد لذاتك، بل كن اليد الحانية التي تشبه البلسم الذي يطيب أي جُرح.

 

 

ولا تلتفت لأي شيءٍ يعكر صفو حياتك، اخرج من أي حزن، واعبر فوق هضاب الألم، وقاوم صفعات يد الزمن، ولا تدعها تخترق مسام خدك.

 

  استغل هواياتك؛ بالكتابة، اكتب ، ارسم، افعل أي شيء تريده، وتجد فيه ذاتك، فربما من ألمك هذا تصنع فنانًا.

 

 

كن أنت نفسك، ولا تجعل حياتك مهما كان مُرها، تنال منك

انظر دومًا إلى الجانب المضيء، ولا تنظر إلى الجانب المظلم.

 

 

فهذه البنت رغم قسوة حياتها وصرامة تربيتها إلا أن هذه التربية شكلت جزءًا كبيرًا من شخصيتها السوية ،وجعلت منها شخصًا مميزًا في مجاله، كانت رائدة جيلها خلقًا، ودينًا.

 

 

ألقت بحقيبة المأسي، والمصاعب، والآلام في محيط اللاوعي، وخرجت للمجتمع شخصًا سويًا، لا يحمل عقد الماضي داخله، ناجحًا، متميزًا في مجاله، ويحبه الجميع.

 

 

فبين ماضٍ، وحاضرٍ كانت حياة، ربما كانت صاحبة هذه القصة تحياها مأساة، وربما كانت ساخطةً عليها بعض الأحيان، وأحيانًا كانت لا تبصر سوى صرامة أمها، التي كانت تراها قسوة.

 

 

إلا أنه في حقيقة الأمر، تلك التربية الصارمة، كانت سببًا في تميز هذه البنت عن مثيلاتها، وغيرها من البنات.

 

 

فبين هذا الحين، وذاك، وُلدت تلك الفراشة الرقراقة، التي يغار منها نسيم الصباح حينما تداعب خديها قطرات الندى.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!