سامح بسيوني
تمتد الحقول الخضراء الواسعة تحت أشعة الشمس الدافئة، والشمس تستعد للغروب والشفق الأحمر يسيطر على السماء والبدر مختفي وراء السحب؛
يالها من ليلة ننتظرها على شوق،
وحنين وبعد طول إنتظار طويل بعدما استعددنا نحن وصبية بلدتنا بتعليق الزينة في شوارع القرية، وكانت الدور مبنية بالطين اللبني، وكنا نأتي بمسامير ونضعها برفق في الجدار ثم نقوم بتعليق الزينة، وكان الأهل يخافون علينا؛ لأن أعمدة الكهرباء كانت قريبة جدًا من الدور وها نحن قد انتهينا من تعليقها ولم يتبق إلا أن يعلن المفتي من المذياع بأن غدًا هو أول شهر رمضان المعظم.
وكانت أغلب الدور ليس عندهم لا تلفاز ولا مذياع فكانت الصبية يتوجهون على الفور إلى دوار العمدة؛ ليستمعوا من هناك رؤية رمضان، وكنا كثيرين وكان شيخ الخفر ينظمنا بالوقوف ومن لم يتبع التعليمات عقابه الحرمان من سماع المذياع، إلا أن عمدة البلد كان رجلًا طيبًا رقيقًا فكان يخرج علينا بابتسامة تهتز لها الوجدان فنستريح لرؤيته ويخرج ومعه الحلوي فيضع لكل طفل في يده قطعة حلوي، ونحن نردد معه (بكره ايه يا ولاد فنقول في صوت واحد تهتز له القرية رمضان)، ثم يعم الصمت المكان لأن الإذاعة أخبرت بأنها سوف تنتقل الى إذاعة خارجية لإذاعة البث المباشر لرؤية رمضان.
فتبدأ بتلاوة القرآن والكل في ترقب، وكأننا في مشهد مهيب من مشاهد الأخرة ننتظر العفو والغفران والبركة والريحان.
ثم يدلو المفتي فيبدأ بكلمته والأنفاس حبيسة الأجساد والأطفال في عيونهم الشفق وكأنهم في انتظار أب رحيم غائب، وما أن يعلنها ويقول بأن غدًا هو أول شهر رمضان المعظم، فتعلو الاصوات كبرق خاطف، وتزاد الصيحات بالفرح والسرور والاستبشار، وكان أهل البلدة يعرفون من علو أصواتنا بأن غدًا هو رمضان.
فنتطلق إلى الطرقات نلهو ونلعب ثم نذهب الى مسجد (الحسن بن علي)، وكان أمامه خزان أسمنتي كنا نلعب عليه نحن والصبية، ونتأمل المئذنة وهي تحاط بالأنوار والزينات، وكنا نشعر يومها بأن القرية ازدادت نورًا مع ضعف التيار الكهربائي في تلك الأيام، ولكن عندما يأتي رمضان كنا نحس بهذا الأمر وكأن آنوار رمضان تطفو على المكان.
وكان المؤذن يصعد على المئذنة؛ ليعلن بأن غدًا هو أول شهر رمضان ويؤذن لصلاة العشاء وبعدها ندخل نصلي العشاء في جماعة ونصلي التراويح، وكنا نحب إمام المسجد؛ لأنه لا يطيل في الصلاة وكنا نظنه ونحن صغار بأنه لا يحفظ الكثير من القرآن بسبب التخفيف في الصلاة وما أن ننتهي من الصلاة كنا نطلق كصاروخ عبر القارات نحضر الكرة وكانت من الجوارب والقماش ونلعب في ساحة أمام المسجد التي كان ممتلئة بالزينات والكهرباء فأخذنا الوقت إلى العاشرة مساء ولم نشعر بملل أو ضجر، بل كانت السعادة هي العنوان.
وكانت القرية تنام مباشرة بعد صلاة العشاء، ولكن تلك الليلة لم نذق فيها النوم من شدة الفرح والسرور والحنين والأشواق؛ فنحن جميعًا في انتظار المسحراتي وكان رجلًا طيبًا يرتدي ملابس رثه تدل على قلة اليد والذات، وينادي في الناس (اصحا يا نايم وحد الدايم) وكنا نخرج له نحن والصبية في الحال ونمسك في أيدينا فوانيس من صفيح بداخلها شمعة أهلكها الدهر والزمان نسير وراءه في شوارع القرية والبهجة تعلو الوجوه وترسم على الشفاه أجمل الألحان، ويأتي الكروان فيشدوا فتكتمل سيفونية اللحن والجمال.
وما أن ينتهي المسحراتي من مناداته لأهل القرية؛ لايقاظها نعود على الفور إلى الدور؛ لنتسحر، وكان أهل القرية ينتبهون جيدًا إلى قرآن الفجر الذي يصدر من مكبرات المسجد ويزداد التركيز أكثر مع التواشيح ثم ينطلق أذان الفجر معلنًا أول يوم لصيام.
ثم نتجه إلى المسجد، وهو ممتليء عن بكرة أبيه ما بين راكع وساجد وقاريء، الكل يرجو رحمته، وما أن ننتهي من الصلاة فنعود إلى الدور وقد تهالكت الأجساد فنأوى إلى الفراش فنصير مع أهل الكهف نتقلب ذات اليمين وذات الشمال، لا نستيقظ إلا قبيل الظهر؛ لنبدأ يوما جديدًا من أيام رمضان، يالها من ذكريات تحفر في الوجدان وتذكرنا بأيام كان الإنسان فيها إنسان والزمان مليء بالحب والعطاء، فهل سيعود هذا الزمان؟