ابداعات

“فلتنتبه، لا تقترب”

 

بقلم: شيماء_حسانين || رحيل 

مرت الأيام وازدحم جدول محاضراتي، لذلك لم يتسن لي الوقت للذهاب إلى ذاك الطريق مرةً أخرى، وربما مع ضغط العمل نسيت الأمر لوهلةٍ ما إلى أن رأيت الأمر يُعاد في حُلمي، كل ليلة نفس المشهد، الفتاة وأنا، كأنني أجلس في قاعة سينما لأخراج مشهدٍ ما قبل عرضه على الجمهور، ولكنه كل مرة يُعاد برسالة ما، لا أدري هل تستغيث بي أم أنا من استغيث بها لتُحررني من قيدي؟!

لتجعلني قادرًا على أن اخطو خطواتي دون حيرة وتشتت، ثم جاءت إجازة نهاية العام، قررتُ أن أمضي هذه الإجازة مع والدتي في بيتنا، ولهذا أعددتُ عُدتي، وحزمتُ أمتعتي، وجهزت سيارتي بكل شيء قد أحتاجه على الطريق، فالطريق إلى قريتي يأخذ قرابة الأربع ساعات، وربما أقل إذا كانت سرعة السيارة فوق ال 200 كيلو متر لكل ساعة، ولكنني أخشى السرعة، لذلك أسير بسرعة هادئة، ولهذا كنت أخذ الكثير من الوقت في عودتي، وربما لهذا السبب اقترح عليَّ أخي هذا الطريق، حيث يمكنني أن اسرع إذا أردت ذلك، فالطريق فارغ لا يوجد به أحد، ولكن يبدو أنه يوجد ولكن لم يراه أحد .. تعمدتُ أن أسافر نهارًا لكي استطيع رؤية القصر إذا لاح أمامي، فربما من ظلمة الليل لم تسمح لي أن أتفحص كل شيء حوله، وبدأت رحلتي في الصباح الباكر، ثم في منتصف الطريق وفي نفس المكان تعطلت سيارتي مجددًا، فتعجبت من الأمر فقد تيقنت أن كل شيء بها يعمل بشكلٍ جيد للغاية، وأخبرني مصلح السيارات أنها لن تتعطل مني مجددًا، ولكن حدث الأمر، ظللتُ لساعات طوال أبحث عن أحد حولي ولكنني لم أجد، ثم نظرت عبر الأشجار في اتجاه القصر، ولكن العجيب في الأمر أنه لم أرَ شيئًا، خطوت خطوات واثبة كانت أقرب إلى الركض منها إلى السير ولكنني كان يجب عليّ أن أتيقن أن ما رأيته كان صحيحًا، وقفت عند نفس الموضع السابق ولكن لم تكن هناك بوابة، ولم يكن هناك قصر، وبينما كنت ألتفت يمينًا ويسارًا، لاح ظل شخص بالقرب من سيارتي، عُدتُ مسرعًا، فإذا به رجلٌ غريب الشكل، لحية طويلة وغير مرتبة، وشعر رأسه طويل، وملابسه رثة وكأنه خرج من أحد القبور، وكانت تفوح منه رائحة كريهة لم أقوى على الاقتراب منه، ووجهت له العديد من الاسئلة ولكنه لم يُجيب ..

اقتربت بضع خطوات وأنا أضع يدي على أنفي، فالرائحة حقًا لا استطيع أن أصفها، ولكنني أردتُ أن اسأله عما إن كان هناك بالقرب من التلة خلف الأشجار قصرًا ما، ولكنه كان منشغل في سيارتي، يتفحصها كأنه للمرة الأولى له في حياته يشاهد سيارة، ثم أومأ برأسه لاقترب، تراجعت خطوتين للوراء، ثم قال: لا تخف، لن أؤذيك يا أندريا .. 

أجبته وعلامات التعجب تعتلي وجهي، كيف له أن يعرف اسمي؟!

هل هو شبح أم آدمي؟!

لاحت الكثير من التساؤلات في خاطري، ولكنني أجبته بسؤال أخر: هل تعرفني أيها السيد؟!

فإذا به تتعالى ضحكاته ويقول: أحقًا لم تتعرف إليّ؟!

أصابتني الحيرة أكثر وأكثر، وتعجبت من سؤاله هذا أكثر من معرفته من أنا، فقولت له: هل تلاقينا من قبل؟!

الرجل وهو يطوف حول السيارة: ربما من سنوات طوال، أو ربما من بضعة أشهر لا أعلم..

أصاب رأسي دوار وأوشكت على السقوط فاستندت بكتفي على حافة السيارة، ثم جلست إلى الأرض، وأنا اردد: أخبرني من أنت؟!

فقط أريد أن أعرف كيف تعرفني؟!

أنا لم أراكَ من قبل، فكيف لكَ أن تعرف اسمي؟!

الرجل وقد جلس على الجهة الأخرى واستند على السيارة مثلما فعلت، ولكن لا أحد منا يرى الأخر قال: أعرف كل شيء عنك، أنت بروفسور في جامعة مرموقة في لندن، حاربت قدرك وأتيت إلى الحياة، وحاربت فقرك وعُزلتك وأصبحت من أهل المدينة، ولم تكتفي بذلك بل سعيت لتحقيق حُلمك وحُلم والدك الراحل، وأنت الآن أوشكت على أن تُكمل الثلاثين من عُمُرك، وليس هذا فقط، أتعلم والدتك تنتظرك الآن وقد أصابها القلق إثر تأخرك..

أندريا: كيف تعرف كل هذا؟!

هل أنتَ تعرف أبي وأمي؟!

هل تعرفني أنا؟!

هل أنتَ آدمي أم روح هائمة؟!

وربما لست هذا وذاك، ربما أنت شبح شخصٌ ما، لهذا أخبرني هل أنت كذلك؟!

الرجل وقد أصابه السؤال بسهمٍ من الصمت الطويل، وحين لم أجد إجابة على سؤالي نهضت وذهبت إلى الجهة الأخرى من السيارة فلم أجده، حقًا كأنه لم يكن له وجود، كأنني كنت أتحدث إلى ذاتي، لم أشعر بذهابه، ولم أرى أي أثرٍ له، يبدو أنني كنت أتوهم مرة أخرى، أيعقل أنني جُننت؟!

ألم تعد لدي القدرة على التميز بين الحقيقة والوهم؟!.

هل أفقد ذاتي في هذا الدرب؟!

هرولتُ إلى السيارة وحاولت تشغيلها، فوجدتُها قد عادت للعمل، تحركتُ بها مسرعًا، وكانت المرة الأولى ليّ في القيادة على عجل، وبهذه السرعة الرهيية، التي جعلتني أقطع الطريق في ساعة ونصف، دون أن ألتفت للحظةٍ واحدة، ما هذا العته؟!

وما هذا الخوف الذي يعتريني؟!

كنتُ أتصبب عرقًا تحت الثلوج، وفي درجة الحرارة الباردة، كيف هذا؟!

ما الذي أصابني؟!

توقفت على مسافة من البيت لأرتب هيئتي وثيابي، ثم تحركتُ قاصدًا البيت، وبينما أوشكت على الوقوف في الباحة الخلفية، وجدتُ والدتي تأتي مسرعة وتسألني كيف أتيت إلى هنا؟!

تعجبتُ من سؤالها: كيف لي أن لا آتي، تحدثتُ إليكِ البارحة؟!

كيرا: لقد هاتفتني صباح اليوم وأخبرتني أنكَ لن تستطيع أن تأتي ..

أندريا بتعجب شديد: من؟! أنا؟!

لا لم يحدث ..

كيرا: كيف يا بني، يمكنك أن تتابع سجل مكالماتي، ستجد مكالمة هاتفية منكَ صباح اليوم .. 

أندريا: ولكنني لم أفعل ..

وبالفعل حين راجعت سجلات هاتفها كانت هناك مكالمة مني، ولكن كيف؟!

أنا لا أذكر شيئًا عن هذه المكالمة، أرتميت بين ذراعيها ثم بدأت أهزو بكلماتِ لم تفهم لها فقالت: أندريا هل أنت بخير؟!

أندريا: لا أعلم يا أمي، فقط ضميني بين ذراعيكِ اشعر كأن العالم أجمع يتآمر ضدي، كأنني تائه وشريد دون مأوى ..

ثم رفعت رأسي وأكملت، أيعقل أني أفقد عقلي يا أمي؟!

كيرا وعلامات الحزن تعتلي وجهها: لا يا بني أنتَ بخير، ربما هذا مجرد سوء تفاهم لا أكثر .. مرحبًا بكَ في بيتك يا حبيب القلب ..

أندرريا وهو يحاول أن يستجمع ذاته: مرحبًا بكِ أمي .. سأدلف إلى غرفتي لاستريح .. 

كيرا: حسنًا يا بني ..

ثم غادر باحة البيت ودلف إلى الداخل وضع أغراضه وجلس على الأريكة المقابلة للنافذة التي تطل على بحيرة صغيرة خارج حدود بيتهم ولكن الأسوار الخشبية حول البيت لم تمنعهم من النظر إليها وكانت تقع في الجهة الشمالية بين أشجار الصنوبر العالية، وهذا ما جعلها تُحافظ على حالتها السائلة فالأشجار تقدم لها الدفء اللازم لجعلها تظل جارية وغير متجمدة، نظرتُ إليها مطولًا ثم نهضتُ والكثير من الأفكار تتصارع في رأسي، كأنها حلبة ملاكمة أو ساحة حرب والخاسر الوحيد بها هو أنا، ذهبتُ إلى فراشي، وأبدلت ملابسي وغفوت لعدة ساعات، وحين استيقظت كان منتصف الليل قد حل، لم تشأ أمي أن توقظني، تعلم ما أمر به، والضغوط الني أعيشها في حياتي بشكلٍ يومي، لذلك أرادت أن تجعلني نائم إلى أن استيقظ بمفردي، وحين فتحو عينايَّ كانت تقف على باب غرفتي تتأملني، كأنها لن تراني أو تودعني، لا أعلم ولكن هذا الشعور الذي تسلل إلى داخلي حين رأيتُها، فجلست على فراشي، ونظرتُ إليها مبتسمًا وقلت: لا تقلقي أنا بخير الآن.. 

كيرا وهي تقترب منه وتجلس مقابله: أعلم أنكَ ستكون بخير، هذه ليست المرة الأولى .. 

أندريا وقد اعتدل في جلسته: كيف هذا؟!

كيرا وعلامات الآسى تعتريها: حين كنت في الخامسة من عمرك حدث نفس الأمر، ولكن ربما لصغر سنك حينها لا تتذكر الأمر الآن .. 

أندريا بتعجب شديد: ما الذي حدث سابقًا ويُعاد الآن، أخبريني ربما هذا يُخرجني من متاهتي..

كيرا وهي تتنهد كأن ثقل الكون على صدرها، وصوت أنفاسها يكسر صمت الغرفة: حين كنت في السادسة لم تقبلك مدرسة القرية، لأنك كنت ترى أشياء لا يستطيع أحد رؤيتها، كنت ترى أشخاص رحلوا، ومنازل لا وجود لها بداخلها أشخاص وتسرد القصص والحكايات عنهم، ولكن لم يفهمك أحد حينها، ولن يفهمك أحد الآن، حيث ذهبتُ بكَ لطبيب نفسي..

أندريا وهو يسكتها: طفل في السادسة من عمره تذهبين به إلى طبيب نفسي؟!

كيرا وقد بدأت الدموع تنسال من مُقلتيها: لم يكن هناك طريقة أخرى، بدأ أخوتك يخشونك، والأطفال من حولك رفضوا أن يجلسوا معك ويلعبون، لذلك اقترح جون وقد كان في الثانوية حينها أن يراك طبيب نفسي، ربما يكون هناك خطبٌ ما..!

أندريا: ……

كيرا: ولكن الطبيب أخبرني أنكَ بخير، وأن لا شيء بك، ومعدلات ذكائك عالية، لهذا نصحني بمدرسة خاصة في المدينة، وهي تقبل الأطفال أمثالك عاليين الذكاء، والمختلفين عما حولهم، ولهذا درست في مدرسة المدينة بعيدًا عني وعن أخوتك، وكانت قواعد هذه المدرسة صارمة للغاية، حيث لا إجازات، ولا زيارات سوى مرة واحدة كل عام، لهذا لم نكن نأتي لرؤيتك إلا في يوم ميلادك فقط، كي لا تشعر أنك وحيد، وكي نحفزك على أن تستمر في تفوقك، وفعلت .. وحين سألت في مدرستك عما إذا كنت تسرد قصصٌ غريبة، أو تخبرهم بوجود أشخاص غرباء، أخبروني أن لا، وأنك بخير تمامًا، لذلك لم أجرؤ يومًا على أن أترككَ تأتي إلى هنا.

أندريا وكأن الكون أجمع يلف به: لمَ أنا؟!

ماذا حدث لي؟! 

كيرا: حدث لكَ أمرٌ جلل .. ولكن ربما هو سبب ما أنتَ به الآن .. 

 

تسارعت دقات قلبه وكأنه أوشك على أن يغوص داخل محيطٍ عاصف، كأن قلبه بين الرحى يُطحن دون أن يُبَالى بألمه ..

 

ماذا حدث ليّ؟! 

وما هو سر رؤيتي للقصر؟!

الكثير من الأسئلة تتصارع دتخل رأسي، كأنني في حلبة مصارعة، إلى أين سيؤول بي الأمر؟! 

لا أدري، ولكن يجب أن أعلم ماذا حدث لي؟! 

وما هو هذا السر؟!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!