ابداعات

بدافع الحب

لجين سامح 

 

في السابعة من مساء الثلاثاء، وبينما أجلس على المقعد أمام المحكمة، واسترجع ما حدث خلال الأيام الماضية، وتجتر الدموع إلى حنجرتي، تقف هناك.. مع باقي الكلمات التي ظلت حبيسة في صدري طيلة خمسة أعوام..

وتتردد في ذهني الجملة الوحيدة، التي أتذكرها طوال يوم كامل:” حكمت المحكمة حضوريًا ببراءة المتهّم.” 

 

إذن من بإمكانه أن يبرئ قلبي من ما حدث به، من بإمكانه أن يقف حائلًا بيني وبين أيامي الضائعة، من لديه صوت ليخرج الصوت في عقلي.. والحبيس منذ خمسة أعوام..

 

أسير في طريق عودتي إلى المنزل، أو دعني أقول القبو، لأن العدالة أخذت مجراها في جعلي أعيش بلا إنسانية، بينما يعيش هو.. في الرفاه، بينما يعيش المتهّم في قصرهِ والحاشية من حوله، وأنا ابنة رجل عاديّ توفى منذ عشرة أعوام.. في قبو منزل

أتلك هي العدالة؟ 

أكان يجب أن أولد لرجلٍ مثل المتهّم لأحصل على حقي في الحياة؟ 

 

أعود أخيرًا إلى المنزل، وأسفل المياه، يتأوه جسدي، من الكدمات، من السحابات الزرقاء التي تجلس في كل جزء منه، من الدماء المتجلطة.. التي تسير به..

من سيعيد لي حق الحياة؟ 

 

من سيدفع لي تذكرة الطبيب النفسي، ومن سينصت لصوتي المبحوح من البكاء..

 

أذهب إلى فراشي، ويوايتني كابوسي المعتاد: 

” أجلس في غرفتي القديمة، اختار فستانًا بلون قرمزي، بلا أكمام.. الحذاء بلا كعب، وبعض مساحيق التجميل، ونظرة أخيرة نحو المرآة.. مع نكازتي التي تظهر بامتياز-كعلامة الترف في الحياة- ..

 

“عزيزي.. لقد انتهيت..” 

“هيا بنا إذن..” 

 في سيارة البي ام دبيو، وبينما يسير السائق في شوارع طرابلس، وأقع ضحية للسعادة.. والوقت الضائع، نصل أخيرًا إلى المطعم الخمس نجوم، وفي ليلة بدا القمر فيها بارزًا من السماء، والحب يتطاير من كل اتجاه.. عشاء رومانسي مع رجل غني ووسيم، لا يوجد به خطأ واحد..

زوجي الذي تحسدني فتيات حيي القديم عليه، والذي كنت أحسد نفسي عليه أيضًا بعض الوقت..

 

إلى أن، عدنا في النهاية، وبدأت سلسلة القمع..

في غرفتي، وبينما استعد للنوم، أغلق علي الباب من الخارج بالمفتاح..

ثم؟ “عزيزي.. أهناك خطب ما؟ ” 

“لن تخرجي من هنا ما دمتُ على قيد الحياة..” 

“ماذا ؟ “

“كما سمعتِ..” 

 

ينقضي اليوم، يجر الآخر، ثلاثة أيام بلا طعام، بلا صوت بلا مياه .. أتوسل من أجل الخروج، حتى ظننت أحيانًا أنني لم أعد على قيد الحياة

 

في اليوم الرابع، عصا خشبية.. “ما الذي تفعله.. ما الذي …”

وجسدي تحت العصا، عيني غارقين في الدموع، والصمت يلف المكان.. عدا صوت صراخي، عدا صوت جسدي وهو يأنّ بلا دفاع

 

اليوم الخامس، مشرط.. ويدي غارقتين في الدماء

“لحسن حظك أنني أبقيتكِ على قيد الحياة..” 

في المشفى، وبينما الطبيب يجلس أمامي:”لم قررت الانتحار؟” 

 

انتحار ماذا؟ وصوته الذي يتردد في أذني:”لحسن حظك أنني أبقيتك على قيد الحياة..” 

 

يوم يجر الآخر، أحاول الهرب مرارًا وتكرارًا، وأعود.. لنفس النقطة، الغرفة، وفتات الطعام، والعصا التي تختلف كل يوم عن سابقتها..

 

“لماذا؟ لماذا ؟ “

“لأنكِ نظرتِ له.. لأنكِ أيتها الخائنة، نظرتِ له في مرآة المطعم..” 

“من؟ ماذا تقول؟ أرجوك .. “

“الرجل الجالس على الطاولة المجاورة..” 

“أنت.. أنت مجنون!!”

 

لم يسأل أحد عني، لم يحاول أحد.. أن يقف أمامه ويخبره أين امرأتك، كنت منسية تمامًا..

 

وهاجمني الاكتئاب، يومًا بعد يوم، التعب، والصراخ، والصمت الذي يلف المكان..” 

 

استيقظ، على صوت صراخي، بكاءي الذي ينهمر كشلال، آخذ مهدئ، وأخرج للخارج، وأحاول.. أن أتوقف عن البكاء..

 

أخرج دفتر صغير من جيبي، وقلم واكتب:

“لقد عانيت طوال خمسة أعوام من معيشة لا يجرؤ بشر على أن يجعل حيوانًا يعيشها، أصبحت مدمنة المهدئات، لم أعد أستطيع النوم بلا كوابيس..

هربت بأكثر الطرق جنونًا على مر الحياةـ حاولت الانتحارـ وفي طريقنا للمشفى هربت..

لقد انكسر صوتي، وتحطم جسدي، وانزوى جمالي تحت عتبة الاكتئاب.. 

لقد كنت فتاة.. في الخامسة والعشرين، وأصبحت كهلة في الثلاثين،خسرت كل شيء

بينما وقفت أمام المحكمة، التي بلا عدل .

أمام المحكمة، التي ترى الأنثى خطيئة، والتملق نجاة

وقفت أمام الفساد.. بجناح بعوضة، وأخذ المتهم براءة، أخذ المجنون براءة تحت تقرير أنني أعاني الاكتئاب، لذا لا يعتد بشهادتي..

أنني مدمنة.. لذا لا يعتد بشهادتي

أنني امرأة عادية، وهو ابن مليونير سابق.. لذا لا يعتد بشهادتي

 

لقد أكل عمري، وأكل القضاة الباقي منه، لقد..”

 

الصمت، ولا شيء سوى الصمت.

*************

 

“أعلمت ما الذي حدث؟”

“ماذا؟”

صوت المذيع من التلفاز:” رجل قتل زوجته السابقة دعسًا بسيارته، وزعم أنه قتلٌ خطأ، إلى أن وجدت الشرطة رسالتها الأخيرة بين يديها، لقد تعرضت للقمع لمدة خمسة أعوام على يديه، وحين حكمت المحكمة بالطلاق وبراءة المتهّم، قتلها المتهّم.. وكما قالت :”لأنني نظرت لرجل في المرآة.” ويتم الآن التحقيق في الأمر.” 

 

“أليست تلك الفتاة من الحي المجاور؟” 

“نعم..”

“واحسرتاه.. لقد حسدتها النساء على التعاسة والشقاء.”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!