ابداعات

“الابنة” 

 

لجين سامح 

 

في الإذاعة المدرسية، أقف وتتحلق من حولي الفتيات، الصف العاشر، الهمس والضحكات، والمحاولات الأخيرة للتنصل من طابور الصباح، يجيش بداخلي شعور بالسأم، رغبة في لعن العالم، ومعاملة الجميع ككيس رمل كبير لا يحتاج سوى الضرب، والركل، والسبّ مع ابتسامة كبيرة وإجابة:”لا اقصد.” 

 

أقف بينما تنظر المعلمة نحوي:”فوزية.. المديرة تريدك.” 

نعم هذا اسمي، فتاة في الصف العاشر، قرر والديها أن يجعلوها في عامها الخمسين منذ الولادة..

لِم تسمى طفلة في هذا العالم باسم “فوزية”؟ 

 

في الداخل، مكتب المديرة، كوب المياه، التي تقدمه نحوي، وحجابها الأسود المعقود إلى الخلف، ومساحيق التجميل التي لا تتناسب مع التجاعيد التي بدأت تتعارك على جبينها وحول عينيها..

 

“لقد أثرت الشغب مرة ثانية.” 

من داخلي أجبت:”إنهم فقط أوغاد..” 

 

لكن فمي نطق:”آسفة معلمتي..” 

“لا هذه المرة لن يغني أسفك، سأحدث والدتك في الأمر..” 

ابتسمت بسخرية:”هذا إن وجدتيها.” 

 

“حسنًا.. الآن إلى صفك.” 

أدخل الصف أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، أجلس في المقعد الأخير مع الصمت الذي يلتهم ملامحي، وحصة العلوم الذي لا يفقه أستاذها فيها شيئًا..

بعض الأوراق، وطائرات ورقية، وابتسامة سخرية في كل مكان..

 

“فوزية!”

“نعم أستاذ” 

“إلى مكتب المديرة..”

 

من جديد مكتب المديرة، لكن هذه المرة، مع العصا..

“يبدو أنك لن تتوقفي أبدًا” 

“لا..” من داخلي بالطبع 

 

أنقذتني الأخصائية في اللحظة الأخيرة، “سأتكفل بها..” 

قالت، خرجت وتبعتها إلى الخارج، إلى المكتب الصغير الذي يقع في الزاوية ويكاد غير مرئي..

 

” ما الذي يحدث لكِ؟ لم تكوني بهذا السوء من قبل.” 

“إنني فقط أفعل ما يحب فعله..” 

“ومن قال لك بأن هذا يجب فعله؟” 

“كل شيء يقول ذلك..” 

 

يومًا بعد يوم، من غرفة الأخصائية للصف، ومن الصف لغرفة الأخصائية، مع الأسئلة المعتادة..

إلى أنني فكرت هذه المرة بصوتٍ عالٍ:”إن هذا العالم هو جحيم مصغر، كل من فيه أوغاد.. يجب أن يحترقوا..” 

“فوزية؟ ما هذا الكلام، من الذي قاله أمامكِ؟ ” 

“أبي..”

” أخبريني عن أبيكِ..”

“هو أب فقط..” 

 

الدورة تعاد من جديد، غرفة الأخصائية والصف..

إلى أن سئمت في النهاية وأخبرتها كل شيء كي تدعني وشأني 

 

“إن أبي ملاكم، كل ما يفعله ليل نهار هو ضرب أمي بالعصا، وأحيانًا بالمقشة، وأخرى بيديه فحسب، بينما يلقي السباب، ويكرر نفس الكلمات مرارًا وتكرارًا وهو يبتسم لي..

“لا تخافي لن أؤذيكِ” 

قال لي ذات مرة، إن أمي ممسوسة بجان، وأنه يفعل ذلك ليخرج الشيطان منها، وسألته ذات مرة ماذا يفعل ذلك الشيطان؟ قال:”إنه يجعلها تفكر، تقتفي أثري، وتحاول معرفة الأمور التي أخفيها عنها.” ” 

 

“وأنت ماذا فعلت كل ذلك الوقت وأنت تشاهدين أمك؟”

“لا شيء، كنت استمع لكلمات أبي، وأنا امضغ العلكة، وألعنه من داخلي، أعلم أنه هو الشيطان..

لكنني لم أكن أستطع أن أفعل شيء..”

 

“لم تخبري أحدًا؟”

“لا يوجد أحد لأخبره..”

“خالة؟ عمة؟ جدة؟”

“جميعهن في القاهرة، نحن الوحيدين في الريف..” 

 

“ألا يوجد أصدقاء لأمك؟ ” 

“لا..” 

“ثم ؟ “

“لقد قررت أن أحول العالم لجحيم قبل أن ينعتوني بالشيطان ويدعوني أسفل أقدامهم.. 

أعلم أنني قبيحة، وبشكل ما ضخمة بعض الشيء، واسمي هو آخر اسم تتمناه فتاة على وجه الأرض..

لذا من المرجح أن أكون شيطانًا..” 

 

عدت إلى منزلي، كانت أمي تقوم بالخبز، وتنظر نحوي من حين لآخر بصمت..

لم تكن هناك عصا ولا مقشة، لأن كلتاهما، مكسورتين في منتصف المنزل، إذن هل خرج شيطان أمي؟ 

 

“أبي..” 

 لا إجابة، وكأنه اختفى أسفل سابع أرض

“أين أبي يا أمي؟”

“في السجن..” 

“ماذا؟” 

“كما سمعتِ..”

ابتلعت الصدمة، وجلست على الفراش، وأنا أنظر للسقف، هل كنت السبب في أن أجعل أمي شيطان؟ 

 

في اليوم التالي في صف المدرسة، كنت هادئة، هادئة بشكل لا ينتمي لفوزية ..

تنصتّ إلى مكتب المديرة، كان هناك شرطي في الداخل، والأخصائية..

 

” سيدي، إن هذا جرم، ليس في حق الأم فقط، بل في حق الابنة.. لقد حاول جعلها نسخة منه، لكي لا يشعر بالوحدة، وتأنيب الضمير، لقد دمر طفولة فتاة في الحادية عشر من عمرها…

ستكبر فقط بالغضب والحنق على الجميع، وربما تزور السجن هي أيضًا تحت تهمة قتل.

أرجوا أن تتخذ الإجراء المناسب ضده، وأن تعوض الفتاة والأم عن ما حدث.” 

 

عدت إلى المنزل، ورأسي يتصدع من الألم، لم أكن أعلم من هو الشيطان، هل بداخل أمي أم هو أبي، لقد استسغت العنف، ولم أعد أخاف..

أو أنكره.

 

في داخل المنزل، كانت أمي تقوم بلملمة حاجاتنا .

“أمي إلى أين؟”

“إلى القاهرة..” 

“لِم؟”

لم تجب. ارتدت وللمرة الأولى، فستانًا سماويّ، وحجابٌ أبيض، وحذاء كعب عالٍ، وأخرجت لي، بنطالًا أسود، وقميصًا كريميّ اللون، وضعت العطر وخرجنا إلى الخارج، وركبنا السيارة..

 

“أمي؟”

“نعم..”

“أتستطيعين القيادة؟”

“بالطبع..”

“وملابسكِ؟”

“ما بها ؟”

“إنها غير معتادة فحسب..”

“هذه ملابسي المعتادة إلى أن تزوجت الشيطان..” 

 

وحينها علمت، في لحظة سابقة لأوانها، أن العالم لم يكن جحيم، وإنما أبي.. كان يريد الجميع مثله، كان يريد.. أن تتوارث الأجيال العنف، وأن يصبح العالم غابة حقيقية.

وحينها أصبحت فوزية الهادئة التي تحب حصة الرسم، وتدرس العلوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!