ابداعات

ونَس

 

 

 

ضياء علي الدعاس 

 

 

ثمّة أشياء لا نختارها…

كأن نولد نصفين، أو نتجوهر من الخوف، أو أن تكون أرواحنا مهيأة للونس قبل أن تعي معنى أن تكون وحيدًا

 

في زاوية بعيدة من غرفة تمتلئ بصوت المواء،كانت هناك قطتان توأم، بلونٍ واحد وقلبٍ واحد، لا تعرفان العالم إلا من خلال فرائهما المتلاصق

وحين اقتربت، شد إحداهما الآخر في عناقٍ يشبه الرجفة الأولى حين يسمع الطفل صوت الرعد في حضن أمه…

عناق، ليس من الغريب… بل من الفقد؛

كأن ذهاب أحدهما يعني نهاية قصيدة لم تُكتب بعد

 

أذكر أنني تراجعت خطوتين…

لم يكن المشهد مألوفًا، ولا يمكن تفسيره بشيء من علم الحيوان أو سلوك التربية،

كان أقرب إلى الإنسان حين يخاف، لا من الظلام، بل من الضوء… الذي قد يفضح وحدته

 

الحيوانات لا تخفي حاجتها،

لا تتصنع الاستقلال،

ولا تنام على وسادة الكبرياء.

تُظهر خوفها ببساطة، وحنينها بصمت، وارتباطها بصدقٍ يشبه الحقيقة التي ننكرها حين نكبر

 

أترى كيف تخاف القطط من أول لمسة؟

ليس لأنها ترفضها، بل لأنها تجهل ما إن كانت تلك اليد ستهب دفئًا أم وداعًا،

وهكذا نحن…

أكثرنا حساسية، هو أكثرنا حاجةً للونس، 

وأكثرنا خوفًا من فقده..

 

وكما قيل

“وما الحب إلا أن تخاف على من تُحب، أكثر من خوفك على نفسك”

 

أن تكون حساسًا… يعني أن تنتمي،

أن ترتجف عند التغيير، أن تتردد عند الوداع، أن تتعثر حين تبدأ، وتخشى أن تُجرب

 

لكن الخوف، مهما اشتد، لا يدوم…

ففي داخل كل مخلوق نزعة فطرية للبحث عن مأوى، حتى لو بدا في البداية غريبًا عليه

 

لا أحد يُولد معتادًا على المكان…

حتى الكائنات التي تمشي على أربع، تهاب المساحات الجديدة، وتختبئ في الزوايا كأنها تسأل الجدران،هل أنتمي؟

لكن مع الوقت، يحدث ما لا يُدرس…

تتبدل الرهبة إلى ألفة، والارتباك إلى عادة، والخوف إلى انتظار…

وهكذا يذوب الغريب في مألوفٍ جديد، لا لأن الظروف تغيرت، بل لأن القلب تعب من الدفاع، وأراد أن يستريح

 

وهكذا الإنسان…

يدخل بعضنا حياة بعض كتجربة،

ثم يتحول القرب إلى قفص مشترك لا يُفتح إلا من الداخل

 

الوحدة ليست أن تكون بلا أحد،

بل أن ترى نفسك كلك، وتجدها لا تكفيك،

والوَنس… لا يُشترى، بل يُخلَق

في كلمة، في لمسة، في جسدٍ صغير يرتجف في حضنك لأنك صرت “الوطن”

 

وكلما حاولت أن تفهم السر،

وجدته في العناق…

ذاك الذي لا يُخطط له، لا يُدرب عليه، لكنه يحدث،

تمامًا كما حدث بين قطتين لا تعرفان العالم… سوى في وجه بعضهما.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!