ابداعات

زهر البيلسان

 

 

 

بقلم ضياء علي الدعاس 

 

 

وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان…وحدن بيقطفوا وراق الزمان…

هكذا صدحت جارة القمر في ليلة باريسية عام 1988، حين امتلأت قاعة بيرسي بصوتٍ لم يكن يروي حكاية لحنٍ فحسب، بل مرثية لوجوه غابت تحت شجرة في بعلبك، وتحولت إلى صدى خالد

 

كان الشاعر يومها يرى ثلاثة يمرون كل صباح، يجلسون لحظةً قصيرة ثم يمضون نحو المجهول..لم يأتوا في ذلك الصباح المختلف، ولم يعرف سر الغياب إلا حين التقطت عينيه خبرٌ صغير في الجريدة: صور الوجوه الثلاثة وقد أُدرجت أسماؤهم في لائحة الموت…تحولت التحية التي لم يتلقَّها في ذلك اليوم إلى صمتٍ وذكرى أثقل من الجبال

 

وهكذا، صار الغياب الأول مرآةً لغيابات أخرى،وما يدركه القارئ المتأمل أن العدو، وإن تغيرت الوجوه وتبدلت الأزمنة، هو العدو نفسه: يقتنص الأرواح ذاتها، ويترك خلفه الصمت ذاته

 

منذ ذلك الصباح، لم تتوقف الحكاية عن التكرار… تتبدل الوجوه، لكن المشهد واحد: غيابٌ يصير خبرًا مقتضبًا، دموعٌ خلف الأبواب، أمهات لا يعودن يسمعن وقع الخطى.. من الشجرة في بعلبك إلى البحر الذي ابتلع المهاجرين وحدهم، إلى أزقة غزة التي تسقي ترابها دماء الشباب كل يوم، يظل الغياب يكتب نفسه في صمتٍ عنيد

 

غير أن خلف كل خبر، هناك مسرح آخر لا يراه الناس: صرخات البحر حين يغرق القارب، صمت الحجارة حين يسقط الشهيد، اليد التي كانت تمسك باب البيت ولم تعد؛الكواليس أقسى من المشهد الذي يُعرض…وأكثر صدقًا من الكلمات التي تلمع النشرات عبر مواقع التباعد الاجتماعي 

 

ومع ذلك، يبقى أثرهم لا يزول؛ في الأغنيات، على الجدران، وفي ذاكرة الأمهات التي لا تُمحى،غابوا في صمتٍ قاسٍ، لكنهم ظلوا حاضرين في كل تفصيل من تفاصيل الحياة التي لم تتوقف

 

كأن حضورهم تحول إلى هواءٍ نتنفسه، وإلى ظل لا يفارق الأرض..وما يظل بعدهم، ليس موتًا كاملًا، بل حياة أخرى تسير بيننا دون أن تُرى

 

وحين نسمع اليوم:

 

برج الحمام مسور وعالي…هج الحمام بقيت عبالي لحالي…

نشعر أن الكلمات لا تصف برجًا ولا حمامًا فقط، بل تصف حالنا نحن: أسرى في أبراجنا الداخلية، محاطون بجدران لا يراها سوانا، نراقب ما يهرب من بين أيدينا ثم نبقى وحدنا مع الفكرة والذاكرة، هنا تكمن عظمة الأغنية،أنها لا تنتهي عند قصة ثلاثة فدائيين، بل تمتد إلينا نحن المستمعين، لتضعنا في مواجهة وحدتنا نحن، وتتركنا في عمق الصمت نفسه الذي انطلقت منه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!