شريف جلال القصاص
كانت برلين صامتة كصفحة ثلج لم تُكتب بعد، البياض يهبط خفيفًا، كأن المدينة تُدفَن ببطء، والناس يسيرون تحت المطر الثلجي وكأنهم يخشون أن يصدروا صوتًا غير مناسب لهذا الهدوء الجنائزي.
جلس يونس مراد أمام نافذته، يحتضن فنجان قهوة فقد حرارته.
حياته كلها تسير بانضباط: المعمل، المواصلات، الحسابات الدقيقة، كل شيء…
إلا الرسائل الأخيرة من خالته هالة.
خالته… المرأة التي كانت أقرب إليه من الجميع، والتي ربّته كما لو كان ابنها، والتي ظلّ يونس يشعر تجاهها بدَينٍ عاطفي لا يستطيع سداده، آخر مرة رآها قبل سفرها إلى الصعيد، حدثته بنبرة غريبة عن حقها في الميراث، عن رغبتها في “إغلاق أبواب قديمة”، وعن شعور لا تعرف كيف تسميه، يومها أحسّ يونس أنها تخفي شيئًا، لكنها اكتفت بابتسامة مطفأة، ثم رحلت.
رنّ الهاتف. اسمها ظهر.
فتح الرسالة:
“يبدو أنني لن أحصل على حقي في الميراث، يقولون إن البنات لا يرثن حتى لا يستولى عليه من لا يستحق… يقصدون زوجي.
لكن ليس هذا المهم… استسلمت للأمر الواقع.
أريد العودة بأقصى سرعة.
الأمور هنا تغيّرت… وأصبحت غريبة.
هالة.”
رفع يونس الهاتف… وحاول النهوض.
لكن الألم الذي يعرفه انقضّ على صدره.
مرضه المزمن الذي يرافقه منذ سنوات، نوبة ثقيلة تمنعه من الحركة ومن السفر، تجعله يتنفس بصعوبة وكأنه يحمل وزناً غير مرئي فوق ضلوعه.
كلما همّ بالرد أو التفكير في العودة، شدّه الألم إلى المقعد من جديد.
قبل أن يستعيد أنفاسه، جاءت الرسالة التالية:
“يونس… نحن محاصَرون.
لا أحد يدخل أو يخرج.
الطائرات تلقي لنا الطعام من السماء كأننا زومبي.
في موتا-أنخ… لا أحد يموت.”
تجمّد يونس.
لا يعرف كيف، لكن الكلمات تحوّلت إلى يد باردة امتدت إلى صدره.
اهتز الهاتف من جديد:
“الشيخ عبدالقادر يعظ الناس أن ما يحدث فتنة… وأن الله رفع الروح وترك الجسد طليقًا وملعونًا بلا نهاية.
الأب سمعان في القداس يقول إن الخلاص قريب وأن علينا انتظار حكمة الرب.
الناس تائهة… تبحث عن تفسير يشبهها ولا تجده.
الرعب يلقي بجناحيه فوق الجميع.”
يونس حاول الوقوف… لكن المرض أعاده جالسًا.
ارتمى جسده إلى الخلف كأن النوبة تسحبه بعيدًا عن أي قرار.
جاءت رسالة ثالثة، مرتجفة:
“يوسف، طفل في السابعة… وقع من أعلى البيت.
صرخت أمه… ثم زغردت حين جرى نحوها رغم جرحه البليغ.”
ابتلع يونس ريقه بصعوبة.
حاول الوقوف.
لم يستطع.
رسالة أخرى:
“الأطفال يلعبون بالحيات والعقارب السامة، الرجال يتشاجرون كوحوش، أطرافهم تتمزق ولا يكترثون…
الناس نسيت البكاء، كأن الدموع تجمّدت.
يظنون أنه يوم القيامة…
أو قبر فرعوني تحققت نبوءته.”
كان يونس ينظر إلى الشاشة بينما نوبة المرض تشتد، كأنها تعاقبه على كل ثانية يتأخر فيها.
نظر من النافذة إلى الثلج… لكنه لم ير الثلج.
رأى شيئًا يشبه الفراغ.
ضغط زر الاتصال.
لا رد.
“الهاتف مغلق أو خارج التغطية.”
أغلق الهاتف وبقي ممسكًا به، وكأنه ينتظر أن تمتد من داخله يد تسلمه خالته.
مرّ يومان.
نوباته لم تهدأ إلا قليلًا—تحسن هشّ لا يكفي للسفر، لكنه يكفي للسير خطوة بخطوة.
وفي الثالثة فجرًا، جاءته رسالة قصيرة، كأنها كتبت في منتصف صرخة:
“شيء هنا… يقتل الموت نفسه.”
ذلك السطر كسر ما تبقى من مقاومته.
جمع أدواته العلمية:
مقياس العينات، محلول الحفظ، بدلة العزل، مفكرته، ودواءه الذي يحتاجه دائمًا… الدواء الذي يعرف مكوناته، والذي سيعيد تركيبَه يومًا عندما يضطر إليه.
جلس لحظة.
قال لنفسه:
“خالتي هالة… لا يمكن أن تمزح.”
أخذ جواز السفر.
أغلق الحقيبة.
اتجه إلى الباب.
قبل أن يفتحه…
جاءت آخر رسالة، مقطوعة كما لو أن شيئًا خطف نهايتها:
“يونس… لا تأتي فا—”
وتوقفت.
تجمّد يونس.
تجمّد العالم.
ثم قال بصوت يكاد لا يسمعه:
“فات الأوان يا هالة؟”
وفتح الباب.
وبدأ رحلته…
من مدينة يغطيها الثلج،
إلى قرية في الجنوب…
يغطيها شيء أبرد من الثلج بكثير.
أبرد…
وأغرب…
وأقرب إلى الموت من الموت نفسه.
… يتبع




