ابداعات

قلبٌ يطفو على أمواج الحلم 

رحمة خميس 

 

8 ديسمبر

 

أنا هنا الآن، على ظهر السفينة الواقفة عند حافة البحر الذي يمتد أمامي كأفق بلا نهاية، يشبه الغربة التي أهرب إليها، بلا ملامح، بلا ضمانات. هذه السفينة ستكون الملاذ الأخير لقلب لم يعد يحتمل أوجاع الأرض التي غادرها.

 

 

أقف على متن جسدها الخشبي، وكأن البحر يهمس للريح بأغاني الموج الاولى، كأنها تستعد لرحلة طويلة إلى المجهول.

في صمت الليل، كان صوت البحر ينساب كانفاس عاشق متلهف، يلامس بدنها بحنانٍ خفي، يغرّر بها لتترك المرسى، لتغادر الأرض التي تعرفها إلى أعماق غريبة عنها.

 

 

لم أكن يومًا ذلك الشخص الذي يترك كل شيء خلفه ويمضي. لكن كيف أشرح؟ بلدي أصبح لي وطن غريب ينهشني بأنيابه. صار هو القفص الذي يختنق فيه صوتي، حتى قررت أن أهرب.

 

 

السفينة تتحرك ببطء، كأنها تمنحني فرصة للتفكير، للتراجع، لكنها لا تعلم أنني أغلقت أبواب العودة خلفي. رياح البحر تلامس وجهي، ملوحتها تذكرني بالدموع التي أخفيتها طويلًا. أسمع خشب السفينة يئن تحت أقدامنا، صوتها يطغى على كل شيء آخر. كأنها تشتكي هي الأخرى، لكنها تواصل الإبحار.

 

أيتها السفينة، إلى أين ستذهبين؟ همست النجوم وهي تتدلى في السماء معقود من ضوء. لكنها لم تُجب. السفينة لا تتكلم، لكنها تفكر بسكون يسبق عاصفة.

أكان ذلك الرحيل ليس اختيارًا، بل قدَرًا محفورًا في أخشابها، في كل مسمار، في كل حبلٍ يشد أشرعتها.

 

 

كيف أصف شعوري؟ أنا بين سماء وبحر، بين ماضٍ يطاردني ومستقبل لا أراه. والسفينة ترقص على الأمواج، مع أول خفقة للشراع، اهتز العالم. صارت الأمواج صفحة جديدة بيضاء، كأنها تنتظر أن يُكتب عليها كل شيء: الأمل، الخوف، الغرق، والنجاة.

 

 

وأنا أتمسك بأطرافها كأنها الحبل الوحيد الذي يصلني بالحياة. لم تكن السفينة تخشى الغرق، فقد عاشت عمرها تحلم بالماء. كانت تخشى فقط أن يصل بها البحر إلى مكان لا تريد الذهاب إليه مع الموجة التي ترفعني عاليًا، ثم تهوي بي فجأة. هل يشبه هذا ما مررت به؟ صعود بلا استقرار، سقوط بلا تحذير؟

 

 

الركّاب من حولي صامتون، كلٌ منهم يحمل قصته الخاصة، أراها في عيونهم. ربما هم مثلي، يبحثون عن مكان جديد، عن بداية لا تعرف ماضيهم. لكني أشعر أنني الوحيد الذي لا يعرف إلى أين يريد أن يذهب. هل أبحث عن وطن؟ عن بيت؟ أم عن ذاتي التي فقدتها هناك؟

 

 

العاصفة اقتربت الليلة. عندها صارت الأمواج كوحوش تطاردها، وصرخ الهواء كأنه يوبّخها على جرأتها، شعرت حينها السفينة بالوحدة عندما رأيت القبطان يحذرنا.

 

 

قال إنها ستكون قوية، لكنها ستمر. شيء ما في كلماته جعلني أفكر: الموجة التي كانت صديقًا تحولت إلى خصم، أليس هذا ما أعيشه؟ عاصفة أخرى، لكنها في داخلي. والريح حليفًا صارت تصفع وجهها بلا رحمة. 

وأنا مثله تمامًا، لا أملك إلا أن أتمسك بشراعي وأنتظر أن تمر كما السفينة التي كانت على يقين غريب، كأنها ولدت لتعيش هذه اللحظة، لتقاوم آخر قطرة ملح.

 

حين تنتهي الرحلة، وحين أصل إلى ذلك الشاطئ البعيد، لا أعرف كيف سأكون. هل سأجد السلام الذي أهرب إليه؟ أم سأكتشف أنني كنت أهرب من نفسي طوال الوقت؟ السفينة تحمل جسدي، لكن روحي؟ هل ستصل؟ أم ستظل تائهة وسط البحر؟ كما السفينة التي كُتب عليها التجديف والريح صديقها الوحيد.

 

قادرة على الطفو مهما اشتد العمق، لكنها أقوى من ذا القلب القانط تحت قفصي الصدري، الذي هلكه الريح العاصف.

 

تجد نفسها قوية وسط التجديف ضد تيار الريح لا في المراسي الهادئة كقلبي. 

 

الليلة سأحاول النوم. صوت الموج يعزف لحنًا غريبًا، حزينًا لكنه جميل. ربما السفينة تريد أن تخبرني شيئًا، شيئًا لم أفهمه بعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!