شريف القصاص.
في عالم يدار بالعلم والمنطق، مقياس الحياة هو معدلات النبض، مستوى الأكسجين في الدم، ونشاط الدماغ الكهربي..
تبقى مساحة لا يصلها المجهر، ولا يصلحها مبضع التشريح، ولا تخضع للتفسرات العلمية أو المعادلات الكيميائيه.
مساحة يسكنها إيمان راسخ، ورجاء متجذر في أرض اليقين، وصوت قلب أفصح من كل بلاغة العلم، رعاية الله وحفظه الذي يجبر منطق اليأس أن يعترف أنه محض عبث.
فهل يُمكن لصوت أمٍ أن يعبر جدار الغيبوبة؟
هل للدمعة الحارة أن تتجاوز قدرة كهرباء الأجهزة الطبية الحديثة إلى الدماغ؟
هل للعاطفة أن تُخرص كل التقارير التي أجمعت على الموت؟
وهل يكون موت المرأ حين يُعلن ذلك التقرير الطبي؟
أم حين يرتدى من حوله لبس الحداد قبل رحيل الروح؟
نحن لا نحكي عن المعجزات الخارقة للطبيعة، بل نخطو بثبات في واحة اليقين في قدرة الله، التي تتجاوز صحراءالواقع والمنطق القفر، تعبر الفيافي إلى جنة حقيقية تبدأ حين تنتهي كل الأدلة وتتشقق أرض الأمل في العلم المجرد؛ فإذا بأواب السماء تفتح بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
في ربيع عام 2015، في ولاية أريزونا الأمريكية،
تلقّت أم مكالمة من الشرطة تخبرها بأن ابنها، “سام ويكرسون”، البالغ من العمر 22 عامًا، قد تعرّض لحادث مروّع على الطريق أثناء عودته من الجامعة.
السيارة انقلبت مرتين. نقل سام، الذي كان يقود وحده، بطائرة إسعاف إلى مستشفى بارو، واحدة من أعرق مستشفيات الأعصاب في الولايات المتحدة.
الأطباء أخبروا والدته بالتقارير، وكأنما أرادوا قتل الأم قبل موت الإبن المسجى على حافة الاحتضار، أخبروا كارولين، بالحقيقة التي لا تُحتمل:
“ابنك في غيبوبة تامة. جذع الدماغ لا يُظهر أي استجابة.
نبض القلب يتبطاء وكأنما يعزف لحنه الأخير، العقل قد غاب ويستعد للتنحي عن قيادة هذا الجسد.
علميًا: لا أمل في عودته.”
بمنطق الطب، كانت النهاية واضحة.
لكن الإيمان… له منطق آخر هو قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ.
رفضت كارولين أن تُسلم بانطفاء النور، رغم أنها في نفق الواقع القاسي، الذى يشبه جسر من الشوك يودى إلى الهلاك
أبت أن تتستلم لمنطق المستحيل.
كل صباح، كانت تدخل غرفة العناية، تمسك بيد ابنها الغائب عن الدنيا، وتحدّثه كأن بينه وبينها حوار مشفر لا يسمعه أحد سواهما:
“يا بُنيّ…
جئتُك اليوم كما أجيء كلّ صباح،
لأُذكّرك أنّني لم أذهب قط.
أنا هنا، كما كنتُ دائمًا… حين تبكي، حين تفرح، حين تخاف…
أنا من حملتُك في رحمي، ولن يُثقل قلبي انتظارك.”
“أتذكر حين كنتَ صغيرًا، تتعثّر في أولى خطواتك؟
كنتَ تقول: أمي، احمليني!
ها أنا ذا، أحملك الآن روحي… فهلّا عدتَ رجاءً؟”
أنت لم ترحل… بل سافرتَ بعيدًا قليلاً، وأنا أمدّ إليك قلبي ليهديك الطريق.”
“ما زالت رائحتك في يدي، اتنفس بها، وحرارة جبينك التي تسكن راحتي، تجلب الدفيء لروحي.
صحيح أنك توقفت عن الطعام منذ فترة …
لكني لم أتوقف عن أطعامك من صبري، من دعائي، من رجائي.”
سام… أنا هنا. أنا مستعدّة لانتظارك مهما طال الغياب.”
ثلاثة وأربعون يومًا مرّت هكذا.
لا حركة. لا إشارة.
حتى جاء يوم.. كان مختلفًا. وكأنه الصباح الأول الذى بدد ليل امتد عشرات الأيام.
نظرت إلى وجهه، وقالت برجاء أُمٍ لا ينضب:
“يا سام… إن كنت تسمعني، فاضغط على يدي.”
انتظرت لحظات مرت كالدهر، كانت تتسائل مثل كل يوم هل يفعلها، هل يحقق الله سبحانه وتعالى رجاء أم تعلقت بأخر أمل، قالت ذلك بكل ما تملك من رجاء لم تعد تملك غير ذلك ثم نظرت اليه بلهفة …وانتظرت،
ثم انتظرت،
وانتظرت،
وفي كل لحظة تمر تعلو درجة اليقين، شيء فشيء حتى شعرت أن الرجاء وصل إلى السماء، ابتسمت في رضا حين شعرت يد حانية ربتت على قلبها.
اهتزّت أصابع سام أخيرًا، شدّ على يدها برفق.
شهقت الممرضة، دُهش الأطباء، تم عمل فحص كهربائي سريع للمخ كشف عن نشاط عصبي ضعيف… وكأن بعض من أمه اقنعت روحه أن تعود للحياة بأرادة الله .
دخل سام برنامجًا لإعادة التأهيل استمر أربعة أشهر.
وحين عاد للكلام، سُئل:
“ما أكثر ما تتذكره من تلك الغيبوبة؟”
فقال:
“صوت أمي… وهي تقول: أنا في انتظارك .”
ما حدث مع سام دفع العلماء للبحث.
هل يمكن للغيبوبة أن تخدع الأطباء؟
هل يظل الوعي في مكانٍ ما داخل الجسد، ينتظر من يوقظه؟
الجواب جاء من أبحاث في جامعات هارفارد وأكسفورد،
وأطلقوا على هذه الظاهرة اسم الوعي الضمني.
هو نوع من الوعي الخفي، لا يظهر في فحوصات تقليدية،
لكنّه يتفاعل مع المحفزات العاطفية العميقة، كصوت الأم، أو رائحة مألوفة، أو لمسة دافئة.
تجارب سريرية حديثة أثبتت أن تشغيل تسجيلات صوتية عاطفية للمرضى في الغيبوبة
ساعد في تحفيز المخ، وتحقيق استجابات عصبية حقيقية.
لكن حتى هذا التفسير العلمي، لم ينكر دور “الإيمان”.
الحياة هي حياة، وأحياء القلوب… قبل أن يُبعث الجسد،
نعم، العلم يقول إن إحياء الموتى غير ممكن.
لكن لنتوقّف لحظة ونسأل:
ما هو الموت، حقًا؟
هل هو توقف القلب؟
أم غياب الأمل؟
أم انطفاء الرجاء من أعين المحيطين؟
كم من أناسٍ نراهم حولنا أحياء… لكنّهم في غيبوبة من نوع آخر:
غيبوبة فقد الشغف،
غيبوبة خيبة الأمل،
غيبوبة الحزن، أو الفقر، أو الشعور باللا جدوى، يجدون في الاستسلام للموت خلاصًا لأرواحهم من عبث المحاولة.
هؤلاء لا يحتاجون إلى أجهزة إنعاش،
بل إلى كلمة، نظرة، دعوة، أو يد تُمدّ إليهم، تقول:
“أنا معك، أؤمن بك، أثق انك تستطيع… حتى وإن لم تعد تؤمن بنفسك.”
حين تتجاوز مشاعر الإنسان حدود العقل،
حين تُقاتل الأم لأجل حياة لا ترى لها أثرًا…
فهي تمارس نوعًا آخر من العلم.
علمًا لا يُدرّس في المختبرات، ولا يُدوّن في الدوريات الطبية.
لا يسجل في المجلات العلمية ولا حتى في موسوعات الأرقام القياسية.
إنه علم الإيمان.
العلم الذي يجعل دعاءً بسيطًا يغيّر نتيجة.
أو نظرة حنان تكتب بداية جديدة.
صحيح أننا لا نملك أن نعيد الموتى إلى الحياة،
لكننا نملك أن نحيي من ظنّوا أن الحياة أغلقت أبوابها في وجوههم، أن وجودهم عبء لا طائل من ورائه، أن ساعة حياتهم الرملية لفظت اخر حبة رمل أو أوشكت، فأذا بنا نجدها تلتف على محورها وتبدء من جديد.
كن ذلك الصوت…
وستفاجأ كمًا من الأرواح المكدسة وسط ركام القنوط، تنتظرك، تهمس، تستنجد:
“أنا هنا… انقذني “
أرواح تنتظر …
أن نكون ذلك “الصوت”
الذي سمعه سام،
فقرر أن يعود، يدفع باب الأمل بكلتا يديه، يمذق كفنا نسج له قبل أوانه.
أرواح تنتظر أن يتحقق فينا
قوله تعالى:
“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا.”